الجسد المدهوش من لذة يكتشفها لأول مرة، ظل جامدًا على سطح البيت، بينما تتهادى من البعيد آثار أقدام تتهاوى على السلم المؤدي للطابق الأرضي. آن وقت الرجوع، فصوت الأذان قطع الخلوة، وخلّف الدهشة والرهبة… النحنحة التي شقت طريقها إلى حنجرة العجوز الذي قرر مغالبة النوم، وكسر هذه المتعة لأداء صلاة الفجر، كسر متعة الجسدين اللذين عاشا لذة مؤقتة لم تدم طويلاً، هكذا قد تبدو المقدمة لهذه القصة أجمل، نعم فالأمر بدى أكثر متعة وإدهاشًا في مخيلة سلمى.
سلمى التي ترعرعت في بيت والدها، تركت تعليمها بعد وفاة أمها، وعاشت دورها، ذبلت وردة الطفولة في عينيها، وهي تمارس دور الأم، وتلاشت بهجة الطفولة شيئًا فشيئًا.. لم تجد الوقت لتلعب بدميتها التي اشترتها أمها، حتى فقدت الدمية بريقها، فسلمى الآن امرأة ناضجة وتتحمل مسؤولية عائلة فقدت أمًا.
سلمى عاشت حياة بسيطة وعادية جدًا في محيطها الذي لم تتجاوزه. في نظرهم هي الأم البسيطة التي تكافح لإسعاد أسرتها، وهذا الطموح أغلق على حياتها أبوابًا كثيرة للحياة. كثيرًا ما تفترش الأرض، وتنتظر الفارس الملثم الذي رحل فجر أمس على عجل، أطرقت بفكرها وراحت تبحث عن بداية جميلة لقصة ذات حدث أكثر جرأة. وراحت تنسج قصة الفارس الذي قفز من جدار البيت ليلج الحوش، ومنه إلى غرفتها. الباب يقرع، تنهض سلمى وشعرها مبعثر بعبثية. ويدها وقد جف سائل بها. لم يكن الطارق سوى والدها الدرويش، تأكدت أنه وقت الغذاء، وما هي إلا ساعات بسيطة حتى أتى إخوتها من المدرسة، وأعدوا لقيمات العيش بأيديهم، ثم ارتموا على أرضية الغرفة واستغرقوا في نومهم.
لم تجد سلمى وقتًا للنوم، فهي ما إن ينتهي الغداء، حتى تباشر بغسل الأواني، وتقوم بتجفيفها، ومن ثَمّ تبدأ في رسم ملامح وجبة العشاء التي يرغب فيها أفراد أسرتها مباشرة بعد أداء صلاة المغرب. تقف إزاء الحائط تريح جسدها المنهك، وقبل أن تسرقها خيالاتها – كالعادة – تذكرت أنها نست أن تشتري لنفسها غرضها الخاص الوحيد الذي يميزها عن بقية أفراد أسرتها، فهي ما زالت محاصرة بالخوف الذي مرت به يوم استيقظت في فجر بارد وقد بللت منطقتها الخاصة بدماء تراها لأول مرة، هل تأذيت؟ هل جرحت نفسي؟.. لم يخرجها من حيرتها إلا جارتها العجوز التي شرحت لها على عجل أنها أصبحت امرأة مكتملة النضج، لم تفهم سلمى تلك الغمزة التي صنعتها العجوز عند ذكرها للنضوج. يومها سلمى كانت ترتجف من نظرة والدها وإخوانها، من أن يتسرب شيء من السائل الحار إلى خارج ملابسها.
انتهت من غسيل الأواني، وهرعت إلى المطبخ لتخرج قطع الخضار التي ستقوم بتجهيزها للعشاء، مع الخبز الذي ستعده على طوبجها الأسود، تقطع الخضار، تهرب فكرة لتلهب مخيلتها، فتكمل قصة الشاب الذي دخل غرفتها بعد أن تجاوز حوش البيت قافزًا من الجدار، من أنت؟ هكذا بدأ المشهد الأول بينهما لم يكن ملثمًا كما كانت تتخيل. توقف الزمن هنا، توقف طويلًا جدًا. فسلمى المرأة الناضجة قبل أوانها، المرأة المسكينة التي فقدت طفولة مبكرة، ودميتها التي أصبحت بالية يعلوها الغبار ومركونة في زاوية مهجورة من غرفتها ، البيت الصغير لم يكن به الغرف الكافية، وهي تخجل من نومها مع إخوتها الذين دائمًا ما يتجاهلونها بغير قصد، حيث طلبت من والدها أنها ستتخذ من مخزن البيت المهمل غرفةً لها، فهي امرأة وتحتاج إلى شيء من الخصوصية قالتها ورأسها منكس في الأرض. قال لها والدها: لك ذلك. عاشت سلمى سعادة مؤقتة. فهي في غرفتها لوحدها، حيث تعيش كل القصص الخيالية بأحداثها الغريبة والمغرية دون أن تتجاوز جدران الغرفة بل رأسها.
بعد أن مزجت الخضار التي قطعتها بالبهارات الهندية الزكية، ورشت الملح بشيء من الحذر، سكبت الماء في الوعاء، تاركة للنار تكمل العملية عنها، الفكرة التي هربت فجأة عادت إليها مجددًا.. السؤال الذي لم يرد عليه الفارس إلا بحركة بسيطة فقد أمسك يدها وغابت هي عن الدنيا، تخيلت نفسها أنها دمية زاهية في حلة بهية، كل شيء فيها مزهر ومثمر. الوعاء على النار أعلن جاهزيته، ثوران الماء على حواف الوعاء، أعاد سلمى لواقعها، كما أنها تذكرت الطحين الذي جف في يدها، والطوبج قد أسودّ أكثر من كثر اشتعال النار تحته دون أن يحتوي على أي خبز. هربت الفكرة أو قامت بطردها، شدت وعاء العجين، كورت الطحين في يدها، وبدت ترسم به دوائر على سطح الطوبج لتجهز الخبز للعشاء.
وكالعادة ما إن يأتي الأب ويتبعه الأبناء حتى يأكلوا وجبة العشاء، وسرعان ما يخرج الأب إلى غرفته يفترش سجادته ويبدأ في طقوسه التعبدية التي عكف عليها منذ أن ماتت روحه التي تشاركه كل حياته. الأبناء أيضًا ما إن ينتهي العشاء حتى يجتمعوا في غرفتهم لأداء الواجبات أو الحديث وتبادل الضربات والركلات بينهم حتى تخفت حدة الصوت ويدخلوا في دوامة النوم الكبرى. هنا تبدأ حياة سلمى، حيث تقوم بمسح مخلفات العشاء، وتنظيف الأواني، وتدخل غرفتها على عجل… بدأت الفكرة التي هربت بالرجوع، وقد تملكتها بشدة هذه المرة.
مرت الأيام بكل رتابة، وسلمى الأم/ الطفلة التي بدأت تذبل وتذوي، وتغرق أكثر في وحل الأحلام والخيالات، تبدل الحبيب وتغير، فكان شابًا على حصان أبيض، وفارسًا بدويًا من خلفه جماله، وشابًا حديث الهيئة يراعي الموضة، وشابًا عابثًا مخمورًا، وفي كل مرة تنسج سلمى قصة كاملة المعالم مع أي شاب مرَّ بمخيلتها، وفي كل مرة ترسم مقدمة حالمة تناسب عالمها المتخيل، فتكون هي المحور الأساسي لحياة كل شاب مر بها، الأمر في الغالب لا يتعدى القصص الرومانسية التي تحدث في قصص الحب المعروفة، فكل علاقة كانت تبدأ بشيء من التشويق وتستمر في أحداث ملتهبة حتى تنتهي كما تنتهي كل قصة حب بدائية التكوين بخاتمة كلها سعادة.
هكذا كانت سلمى التي بدأت طفولتها تنتهي وتذوي، ولكن عوالمها المتخيلة جعلت منها ملكة وفي بعض الأحيان أميرة عربية، وامرأة متحررة يجمع كل هذه الشخصيات حب قوي عنيف لا ينتهي إلا بسعادة غامرة.
علي بن سالم بن محمد الغافري