الملف النووي الإيراني عاد مجددا إلى الواجهة متصدرا المشهد السياسي الدولي خلال الأسابيع الماضية، وتصاعد السجال السياسي بين الأطراف المعنيَّة بهذا الملف وهي إيران ودول مجموعة (٥+١) بالإضافة إلى كيان الاحتلال الإسرائيلي الذي رفع درجة الصخب الإعلامي والسياسي تجاه البرنامج النووي الإيراني وذلك عبر مسار الأمم المتحدة من خلال كلمة رئيس وزراء “إسرائيل” التي عبَّر فيها عن مخاوفه من امتلاك إيران القنبلة الذرية، مطالبا المجتمع الدولي بالتصدي لإيران بالقوة، ومتناسيا ـ في نفس الوقت ـ التهديد الفعلي والإرهاب الذي يرتكبه كيانه تجاه الشعب الفلسطيني، كذلك هو الحال في اللقاءات الثنائية التي جمعت وزير خارجيته مع وزير خارجية الولايات المتحدة في محاولة الضغط لدفع الولايات المتحدة إلى التصعيد، وهذه الحملات الإعلامية الموجهة ضد إيران لم تتوقف منذ فترة طويلة، بل تجاوزتها إلى توجيه ضربات نوعية ضد أهداف إيرانية في الداخل والخارج، بالمقابل فإن إيران أيضا تعرف كيف ومتى وأين تسدد ضرباتها ضد أعدائها .
في روما وعلى هامش قمة العشرين صدر بيان من قِبل زعماء أربع دول كبرى مرتبطة بالاتفاق النووي الإيراني السابق وهم الرئيس الأميركي جو بايدن ورئيس وزراء المملكة المتحدة بوريس جونسون والرئيس الفرنسي ماكرون ومستشارة ألمانيا أنجيلا ميركل داعين إيران إلى الاستفادة من عودة الولايات المتحدة إلى المفاوضات لإحياء الاتفاق النووي السابق الذي وقع عام 2015م وانسحبت منه الولايات المتحدة عام 2018م وطالب القادة الأربعة الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي باغتنام الفرصة التي أتاحتها احتمالية عودة الولايات المتحدة إلى الاتفاق، وتجنب التصعيد المحتمل، كما اعتبر القادة أن عودة طهران إلى الالتزام بتعهداتها بموجب الاتفاقية، سيمثِّل نوعا من الضمانة على أنها لا تسعى لامتلاك سلاح نووي، ولم يتأخر الرد من طهران، حيث قال المتحدث باسم وزارة الخارجية الإيرانية سعيد خطيب زاده: “إن طهران تنتظر “تحركًا على أرض الواقع” من الولايات المتحدة بشأن الاتفاق النووي.
وأشار إلى أن الإجراءات والخطط التي اتبعتها إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن حتى الآن تتعارض مع النوايا المعلنة من مستشاره للأمن القومي جاك سوليفان، ونقلت وكالة “إرنا” الإيرانية للأنباء عن خطيب زاده قوله في مؤتمر صحفي، إنه بعد انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي لم تجر أي مفاوضات بين البلدين، مضيفًا أن “مفاوضاتنا المقبلة ستكون حول عودة أميركا إلى الاتفاق النووي على نحو يمكن الثقة به”. وتابع: “لن نقبل بعودة الولايات المتحدة إلى خطة العمل الشاملة المشتركة (الاتفاق النووي) إلا إذا رأينا أن هذه العودة مؤكدة”. ودعا خطيب زاده الولايات المتحدة إلى التصرف “على أساس الاحترام” في التعامل مع إيران، إلا أن خطيب زاده رجح أن تعلن إيران نهاية الأسبوع الجاري عن عودتها إلى المفاوضات النووية .
عباس عراقجي كبير مفاوضي إيران بالوكالة الدولية للطاقة الذرية في فيينا كان قد صرح لوسائل إعلام دولية في يونيو الماضي وذلك قَبْل توقف المفاوضات عن صعوبة تحقيق اتفاق بين الأطراف، مؤكدا أن هناك قضايا مهمة ما زالت قيد التفاوض، وهو ما يؤكد تمترس المفاوض الإيراني وتميزه بالنَّفَس الطويل وقدرته الدبلوماسية التي وضعت إيران في موقف متقدم في كل المفاوضات السابقة وفي عهود مختلفة. وشهدت الوكالة الدولية للطاقة الذرية على قدرات المفاوض الإيراني، سواء كان وزير خارجية أو سفيرا ومسؤولا عن الملف النووي لدى الوكالة الدولية للطاقة الذرية، ولذلك تسير إيران بخطوات واثقة في هذا الملف .
التصعيد اللافت من قِبل الكيان الصهيوني أو حلفائه الغربيين دليل أولا على أن خريطة التحالفات التقليدية لم ولن تتغير والضغوطات التي يمارسها الغرب ضد إيران لن تتوقف والمسارعة الراهنة من أجل الوصول إلى إحياء الاتفاق النووي بصيغته السابقة مؤشر على أهمية استثمار الوقت للسيطرة على هواجس الخوف لدى “إسرائيل” ومحاولة منع إيران من الوصول إلى مستوى يؤهلها من إنتاج السلاح النووي، وهو ما نفاه المتحدث باسم الخارجية، مؤكدا أن عقيدة إيران لا تسمح بامتلاك السلاح النووي. وبالمقابل فإن لدى إيران خطوات متقدمة في سياسة الردع تتمثل في الصواريخ البالستية العابرة للقارات ولديها أوراق القوة التي تعرف متى تستخدمها، كما أن استخدام السلاح النووي غير ممكن اليوم؛ لأن العالم لا يتحمل أي خطأ قد يفتح الباب لفوضى نووية قد تحرق العالم بأسره، لذلك اعتمد العالم مبدأ منع الانتشار النووي وقلص الكثير من الرؤوس النووية في اتفاقيات دولية سابقة، بالمقابل فإن إيران تسعى للاستفادة من التقنية النووية وتعزيز قدراتها القومية، لكن ذلك أيضا محرم على إيران وفق العقيدة السياسية التي يتبعها الخصوم، إلا أن الواقع فرض نفسه وقد جربت القوى الدولية التعامل مع إيران في هذا الملف ولم تجد أمامها إلا الاعتراف بوجود إيران نووية، والتعامل مع إيران كشريك يحق لها ما يحق لغيرها من القوى الدولية بالاستفادة من التقنية النووية، وبالتالي رفع العقوبات عنها .
مشروع السلام الإبراهيمي لا يبتعد أيضا عن قضية احتواء البرنامج النووي الإيراني، حيث تنظر الولايات المتحدة ودولة الاحتلال الإسرائيلي إلى أهمية هذا التحالف الذي يزمع أن تتسيده “إسرائيل” وتسيطر على منطقة الشرق الأوسط، ولذلك يراد احتواء ملف إيران النووي وإبعاد كل المهددات التي قد تعرقل نجاح مشروع السلام الإبراهيمي. ويأتي في مقدمتها القدرات الإيرانية التي ما زالت ترعب قوى الغرب و”إسرائيل” وتعتبره المهدد الرئيسي الأول، ولذلك تعيش في حالة من القلق طالما أن هذا المشروع مستمر، وهنا يفرض الملف النووي الإيراني نفسه على القوى الدولية من قبيل الاحتواء والسيطرة على نشاطه بالعودة العاجلة إلى الاتفاق النووي، ولا شك أن إيران تدرك ذلك، وفي نهاية المطاف هي من سيفرض شروطها في المفاوضات المقبلة، وتمتلك إيران الخبرة في تطبيق استراتيجيتها الدولية في عالم تسوده لغة القوة وتجاوز القِيَم والمبادئ الإنسانية عندما تصطدم بالمصالح الدولية .
خميس بن عبيد القطيطي