لقد جعل الله مصب أنهار الإعتقاد السليم والعلم الحكيم والسنّة المرضية من مشايخ بغداد في قلب رجالات دينها، ثائرون على الباطل، ناطقون بالحق، آمرون بالمعروف، ناهون عن المنكر، لا يخافون في الله لومة لائم.
وبعضهم قد لاقى في طريقه ودربه أذىً كثيراً قاوموه بإيمانهم وعلمهم الذي نهلوه من ينابيع الدين المعرفة، فكان غزيراً لا ينضب، خاصة في العظات والتدريس لبث الوعي والفهم بين الناس لفهم كتاب الله تعالى والسنة الشريفة، والتمسك بهما، لتجد بعضهم قد ذاع صيته وبات يقصده طلبة العلم من كل حدبٍ وصوب، ورغم غزارة العلم والورع والتقوى، إلا ان البعض من علماء الأمة الإسلامية لم يحظَ باهتمام يجعل من إرثه حياً يُرزق سواء عبر تلامذته أو عبر أي وسيلة أخرى، لكن في معظم الأحيان كان مرد ذلك مرتبط بالظروف السياسية والمشهد والواقع السياسي في العالم العربي خاصة للعلماء العرب، فمع نهاية الحقبة العثمانية ودخول حقبة الاحتلال الانكليزي للدول العربية، أفرز هذا الواقع ثقافة عشائرية بقيت محافظة على نفسها، وأخرى ليبرالية، هذا نجده في العراق، حيث شهد موجة ليبرالية متعددة المسميات (شيوعية وقومية ويسارية) نادت بالجامعات وتغيير اللباس، فالفئة الأولى التي تمسكت بمدارسها القديمة كالمدرسة السلفية على سبيل المثال، التي كان خطها محافظاً على الخط القديم لها، مدرسة السادة الآلوسية الحسينيين، التي كانت ضاربة بجذورها، وكانت الحركة السلفية في العراق في قمتها، لا سيما وأن العراق بلد علماء الحديث، (أحمد بن حنبل، يحيى بن معين، الدار قطني، أبو إسحق الشيرازي، الإمام الشافعي، معروف الكرخي، موسى بن جعفر الكاظم)، العراق بلد أئمة أهل البيت وعلماء الحديث وعلماء اللغة، بالتالي، العربية لكن كما أشرت مع ظهور النزعات الأخرى، فقد بعضاً من تراث هذه المدارس ومن أثر الأئمة في تلك الحقبة ما بين الثلاثينات حتى الخمسينات، وهذا الواقع ينطبق بشكل مبسط على الشخصية التي ستكون محور موضوعي لهذا اليوم، المحدث العراقي الكبير، عبد الكريم الصاعقة.
هو العالم العلامة البحر، بقية السلف ومحدث بغداد الأوحد، صاعقة أوانه في حفظه واتباعه واتقانه الثقة الشيخ السيد: عبد الكريم بن السيد عباس بن السيد ياس آل الوزير الحسني نسباً، اليماني أصلاً، البغدادي الأزجي الشيخلي مولداً، السلفي الأثري الرباني معتقداً ومنهجاً ومسلكاً، جامع العلوم النقلية والعقلية من الآفاق، وناشر سنة المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم، وعقيدة السلف في العراق. كما تقول المعلومات المتوافرة، لأنه ومع الأسف لم أجد تراجم حوله سوى للشيخ صبحي السامرائي (الحسيني من أشراف آل النبي ومن كبار المحدثين العراقيين المعاصرين وعلم من أعلام الأمة الإسلامية) الذي كان يروي عنه، والشيخ الراشدي أطال الله بعمره، وهو آخر تلامذته ويروي عنه، المكنى بأبي ماجد (1940)، الذي لازم العديد من الشيوخ والعلماء من بينهم الشيخ عبد الكريم الصاعقة، ومن أهم المحطات في حياته كذلك تأسيسه لجماعة الموحدين في عام 1963 بعد أن أخذ طوفان الشيوعية يعلو في أوساط الشباب ولقد أسهمت هذه الجماعة في نشر العقيدة الإسلامية الصحيحة ونشر الثقافة الإسلامية على ضوء القرآن والسنة وضيقت على نشاط الشيوعيين والماركسيين، ولا يزال الشيخ حميد حفظه الله حريصاً على الدعوة والدعاة فكما كان يحوط شيخنا صبحي السامرائي بالرعاية والمتابعة والنصيحة فإنه اليوم يتبعها مع الجميع ومع كثير من الشيوخ حفاظاً علينا وعلى الدعوة إلى دين الله، ورغم أنه حي يُرزق وكان لي شرف الحديث معه، لكن أحداً لم يكتب عنه مع الأسف، خاصة وأنه آخر من بقي من تلامذة الصاعقة، وخصوصاً أيضاً من طلبة العلم الحديث، لأن عبد الكريم الصاعقة هو امتداد للمدرسة الآلوسية السلفية الحقيقية صاحبة الإسناد العالي المتصل إلى سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكتب الشيخ الصاعقة لا تزال موجودة بخط يده، لكن تراثه ضاع ولم يكتب أحد عنه كترجمة حقيقية حتى صور شخصية له يقال إنها في أرشيف الدولة العثمانية باستثناء صورة يتيمة غير واضحة، لكن لم يسعَ أحد ويبحث عنها، لكن في الأربعين سنة الأخيرة والحروب ضاع الكثير من إرث العراق، وكثير من تراجم العلماء، وكنا قد كتبنا سابقاً عن المحقق الكبير محمد بهجت الأثري، راهب اللغة العربية، حيث حركنا المياه الراكدة حوله، وبدأ البعض فعلياً الكتابة عنه وهذا شيء إيجابي محمود ومطلوب.
الشيخ الصاعقة، تولد بغداد بمحلة باب الأزج “باب الشيخ” حالياً (1867). نزحت عائلته وهي من الأشراف الحسنية من اليمن قبل 200 سنة إلى حماة، ومن ثم استقرت في بغداد، ولم يبق منهم إلا أفراد معدودون بحسب المصادر المتوفرة. ووالد السيد عبد الكريم: الحاج السيد عباس الشيخلي من أعيان بغداد، وهو تاجر معروف وله مجلس أدب يحضره أكابر علماء بغداد وأعيانها، وجال به والده منذ صغره على أهل العلم في بغداد فتعلم القراءة والكتابة والخط وتلاوة القرآن الكريم، في فترة كانت بغداد تحت حكم الدولة العثمانية، واستقر به الحال عند علامة بغداد ومحدثها الشيخ الفقيه نعمان أفندي بن أبي الثناء الآلوسي المفسر، لعل الأسباب السياسية السائدة كانت سبباً في تحفظ البعض على هذا الأمر، إذ أنه وكما هو معروف أن دعوة الإمام المجدد أبي عبد الله محمد بن عبد الوهاب بن سليمان التميمي لاقت صدى واسعاً في نجد والحجاز وغيرها من البلدان. فكان من بعض علماء أهل بغداد خصوصاً أن تأثروا بدعوة الحق إلى دين الله الخالص بمنهج النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وكان الشيخ الصاعقة ممن يملكون ثقافة شرعية بحتة، لا تملك خبرة سياسية تخولها خوض هذا الميدان، فلم يكن يدري عن مؤامرات الانكليز على بعض الحركات في شبه الجزيرة العربية، بحجة تأليبها ضد العثمانيين.
ومن بين المتأثرين بالمدرسة السلفية القديمة العلامة الإمام عبد الله بن محمود أبو الثناء الألوسي الحسيني البغدادي صاحب “روح المعاني”. والغالب أن يسير الفتى على نهج أبيه فكان، نعمان الشبل من ذاك الأسد الهمام بل كانت الأسرة على هذه الجادة، وتلميذ النعمان، الصاعقة، فكان الآلوسي خير الوالد القلبي له، فراح يطعمه من العلم الكثير. والشيخ نعمان –حُدّث عنه أنه- كان يستظهر الكتب الستة سنداً ومتناً، وله مؤلفات تدل على غزارة علمه وصحة عقده لا يزال أكثرها مخطوطاً معرضاً للتلف أو السرقة، وكان من تلامذة نعمان أيضاً:علامة الدنيا الفقيه الأديب الشاعر اللبيب العلامة المحدث الشيخ السيد محمود شكري الالوسي أبن أخيه، وهو أيضاً من شيوخ السيد عبد الكريم، ليكون للشيخ عبد الكريم الصاعقة أستاذان:
الأول، الشيخ نعمان الألوسي الذي أخذ عنه الكتب الستة والفقه والتفسير، وقد نال الإجازة العامة منه بمروياته، والثاني، محمود شكري الألوسي الذي أخذ عنه علوم اللغة والأدب والأصول والعقيدة، ونال منه الإجازة بمروياته أيضاً. هو وأقرانه الشيخ العلامة محمد بن حمد العسافي النجدي البغدادي، والشيخ العلامة الأديب محمد بهجت الأثري البغدادي، والشيخ الأستاذ عبد اللطيف ثنيان وغيرهم، كما أخذ عن العلامة الشيخ أحمد شاكر الالوسي وأجيز منه بمروياته. وتلقى الشيخ الصاعقة أيضاً عن العلامة الأثري الشيخ عبد السلام الشواف النجدي البغدادي ودرس عنه البخاري ومسلم فقط.
وارتحل الشيخ الصاعقة إلى الهند لنهل العلوم والتقى بها أكابر أهل العلم كما أخذ عن العلامة زين الفرقدين حسين بن محسن الأنصاري السبيعي، وعندما رجع إلى بغداد شوقاً لدياره وأطلالها لم تهدأ ثورته ولم تسكن نفسه فأصدر جريدة الصاعقة نتيجة لردة فعل لأنه رأى أن العروبة قد انتهت واضمحلت من سياسة التتريك التي كانت تمارسها الدولة العثمانية التي كانت في عز قوتها، رغم أنه كان لها وما عليها، لكن في سنواتها الأخيرة وقبل الهجمة العلمانية وجمعية الاتحاد والترقي التي كانت حريصة إلى تحويل البلاد الإسلامية كما التركية، بالعودة إلى مجلة الصاعقة، كان العدد الأول منها في (8/5/1911) وكان هو المحرر ورئيس التحرير وصاحب الامتياز الوحيد فيها، وقد صدرت منها أعداد قليلة حيث أقفلتها السلطات العثمانية آنذاك، ومقالات الجريدة يكتبها الصاعقة بأسلوب ساخر منتقداً بعض الولاة ومخمداً لبعض الضلالات، (وفي أغسطس/ آب عام 1910 صدرت جريدة الرصافة لصاحبها صادق الأعرجي عوضاً عنها جريدة الصاعقة التي كان يملك إمتيازها عبد الكريم الشيخلي وغضب الوالي على هذا التحايل آنذاك)، ثم راح الإمام الصاعقة يعظ ويدِّرس في مساجد بغداد وخاصة في جامع (الحيدرخانة) فدرس بها تفسير الخازن وصحيح البخاري حباً منه في بث الوعي بين الناس لفهم الكتاب والسنة والتمسك بهما. وتعين في وظيفة الإمامة في مسجد المهدية قرب محلة الفضل بجانب الرصافة ببغداد عام (1921) وبعدها انتقل إلى مسجد عثمان أفندي الواقع في سوق الصاغة قرب سوق الوراقين “السراي” بجانب الرصافة ببغداد. عاملاً على هدم الضلال بأنواعه وبناءاً للصرح القويم والمنهج السلفي.
وذكر الشيخ صبحي السامرائي قصة خروجه من بغداد فقال: “اضطهد أيام الاتحاديين في أواخر الحكم العثماني، ودعا على صفحات جريدته (الصاعقة) إلى وحدة المسلمين بقيادة العرب إذ أنه كان يعتقد بإمامة العرب السياسية، لذلك هرب إلى نجد، ثم الحجاز أيام الشريف حسين، والتقى بأكابر العلماء هناك”، ثم رحل إلى حلب هرباً من الظروف الضاغطة التي كانت في بغداد، فالتقى هناك بشيخه العلامة بدر الدين الحسيني الغزي، محدث المسجد الأموي، وغيره من أكابر علماء الشام.
وذاع صيته وصار مناراً يقصده طلاب العلم لينهلوا منه فكرة وعلمه وسمته من كل جانب وصوب فله طلاب من البصرة والزبير والأردن وفلسطين ناهيك عن طلابه البغداديين. فدرس الكتب السنة وموطأ مالك ومسند العشرة من مسند أحمد وشيئاً من المسانيد الأخرى، وكان حريصاً على تدريس المصطلح، وكان لا يرتضي من كتب المصطلح غير كتابي (معرفة علوم الحديث) للحاكم، و(الكفاية) للخطيب البغدادي، وكان من أجل أصحابه، العلامة الشيخ نعمان الأعظمي، والعلامة الشيخ حمدي الأعظمي والعلامة الشيخ محمد بن حمد العسافي والعلامة الحاج عبد اللطيف ثنيان وغيرهم، وكان مفتي بغداد العلامة الفقيه الأصولي قاسم أفندي القيسي يسأله عن مسائل في الحديث، كما التقى الشيخ عبد الكريم الصاعقة بشيوخ الجزيرة وكبار علماء نجد والحجاز الكرام أمثال العلامة الشيخ عبد اللطيف آل الشيخ والعلامة الشيخ سليمان بن سحمان النجدي والعلامة الشيخ عبد الله بن بليهد والعلامة الشيخ محمد بن ابراهيم ال الشيخ.
وتجدر الإشارة هنا مجدداً إلى أن كل ما قام به الشيخ الصاعقة كان في زمن المد الشيوعي والقومي والاتجاهات السياسية الأخرى التي ما انفكت تنتشر في العراق آنذاك، حيث كان الشيخ عبد الكريم الصاعقة رحمه الله. مهيب الجانب غيوراً لله شديد الغضب لدين الله محارباً للبدع والخرافات والأهواء شديد التمسك بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم، كثير الصلاة والصيام والعبادة، عفيف النفس سخياً كريماً محباً للعلم وطلبته، حريصاً على الدرس، فكان يعتمد نمط الاستنباط القديم للمدرسة السلفية التي لم تتأثر بالنزعة الليبرالية التي سادت بعد نهاية الحقبة العثمانية كما أشرنا آنفاً، وكان لهذا العالم الجليل، آثار عديدة، مثل، أصول الحديث: مجلد كبير وهو في مصطلح الحديث على شكل سؤال وجواب، وهو في الراجح عنده في مسائل المصطلح، رسالة في مختلف الحديث، رسالة في أصول الفقه، فتاوى فقهية بالدليل، نظرات في التفسير: رد فيه على بعض المفسرين الذين يعتمدون على الأحاديث الضعيفة والموضوعة والإسرائيليات والتفاسير الباطنية.
ورغم محاولات اغتياله التي فشلت، إلا أنه مرض لكن حتى وهو على فراش الموت لم يكن يبخل عن تلامذته بشيء خاصة وأنه توفي أعزباً كأستاذه محمود شكري الآلوسي لكن البعض قال عكس ذلك، فلم يكن له من يحمل ذكره سوى إرثه الذي لم يلق تقديراً مع شديد الأسف، فكان يجيب المسائل وهو على فراش الموت، ورحل عن عالمنا في العام (1959) في تشييعٍ مهيب يليق برحتله الكريمة في سبيل الإسلام ونصرته.
هذه الشخصية درسٌ لنا جميعاً، لأن نحافظ على القديم ولا ننبهر بالجديد، بأن نُلقي بالغيرة جانباً، كل كلمة ينطق بها عالم هي وثيقة لنا نعتمدها في كثير من أمور الحياة، فكثرة التلاميذ ليست بالعدد بل بما ينقلون عن أساتذتهم الكبار، فكم من عالمٍ إسلامي انتى إرثه مع وفاته، إما لجهل أو لغيرة من تلامذته والمقربين منه، وكم نجد اليوم حروباً مهنية تقوم بين الناس بسبب الغيرة، رغم ان الغيرة حالة طبيعية لكن شرط ألا تكون مدمرة، لأن إرث الأعلام المسلمين هو إرث للجميع لا لفئة بعينها، ولعل الشيخ الراحل عبد الكريم الصاعقة الذي تحدى العثمانيين خير دليل على أن ثمة من أراد أن يمحو تاريخه لكن سنعمل على إحيائه، لكن على قلة المعلومات التي نملك، حاولنا بشكل مبسط استحضار شيئاً من سيرته العطرة، على أمل أن تبعث هذه المقالة في نفوس البعض بأن يولوا الاهتمام الأكبر بالعلم والعلماء، مع نصيحة لـ “العلماء المعاصرين” خاصة الذين برزوا في مجالاتهم العلمية سواء بالفقه أو الحديث أو علوم أخرى، لكن شخصياً أختلف معهم كثيراً في مجال السياسة، لأنها ليست ميدانهم ليبتعدوا عما يشغلهم عن علومهم، لذلك أتمنى على رجال علماء الدين من كل المذاهب الإسلامية، الابتعاد عن السياسة والانشغال بالعلوم والتلاميذ لصنع مستقبل أفضل.
هذا الموضوع موجز مبسط لسيرة فعلاً كنا نأمل أن نجد الكثير من المصادر حولها، نبرر ولا نبرر، وهذا برسم أوقاف البلاد الإسلامية ومدارس الحديث، وإعادة طبع كتب الشيخ الصاعقة بما يليق به كعالم ومحدث كبير.
د. عبدالعزيز بن بدر القطان – كاتب ومفكر/ الكويت.