في ذكرى عاشوراء العام الماضي أطلق زعيم حزب الله، على مرشد ايران علي خامنئي، لقب “حسين العصر”، فأشعل غضب الشيعة العرب وكل الشيعة الذين لا يتبعون ولاية الفقيه.
ربما أراد نصرالله من خلال هالته ورمزيته المتآكلة، محاولة تسجيل السبق في رحلة تطويب خامنئي متجاوزا على مراجع الشيعة بترفيعه لرتبة حسين العصر بوصفه رمزا للثورة والمظلومية. وسرعان ما تحول اختراع حسين العصر هذا لصاحبه حسن نصرالله، الى موجة عارمة من التهكم والنقد اجتاحت وسائل التواصل وعلى امتداد الانتشار الشيعي.
ففي لبنان انعكس هذا اللقب استياءا من قبل مرجعيات ونخب شيعية وازنة عبرت عن رفضها لهذا التوصيف ونقضه فقهيا، وأيضا من قبل جمهور حركة أمل والجمهور الشيعي الرافض للعيش تحت عباءة ولاية الفقيه غير النجفية في لبنان، وقد أعلنوا بوضوح، رفضهم التموضع ضمن “مخيم خامنئي” الذي أراد نصرالله بسلطته الاستنسابية وضعهم فيه.
أمّا في العراق فقد تجلّى الرفض لحسين العصر، بإحراق صور خامنئي وتمزيقها والدوس عليها، ابتداء من كربلاء والنجف وليس انتهاء بالناصرية والبصرة والسماوة والديوانية والفرات الأوسط فضلا عن مدينة الصدر وساحة التحرير في بغداد. وقد أدّت هذه الموجة الرافضة لتمجيد نصرالله لخامنئي باسم الشيعة، الى وقف التداول بمصطلح حسين العصر ومن قبل صاحبه حسن نصرالله الذي بلعه ولم يعد يذكره رغم اطلالاته الكثيرة.
وفي حين هلّل الإعلام الإيراني والمتأيرن وطبّل لاعتبار نصرالله لخامنئي بحسين العصر، فيبدو أن خامنئي نفسه لم يستطع (في ظل العقوبات الأميركية المستأنفة، بعد تمزيق الرئيس الأميركي ترامب للاتفاق النووي، والضغوط الاقتصادية المتفاقمة التي تقبع تحتها ايران) تحمل ذلك، فعمد في موقف لافت، الى امتداح شجاعة الإمام الحسن.
فالإمام الحسن، وهو الإمام الثاني في سلسلة الأئمة الإثني عشر لدى المذهب الشيعي، الذي سبق وأجرى الصلح مع معاوية بن ابي سفيان وفتح الطريق أمامه كي يصبح الخليفة، هو الذي استشهد به واستند عليه خامنئي للسماح بإجراء مفاوضات مع الولايات المتحدة أو “الشيطان الأكبر” عند اللزوم، وهو ما عبّر عنه عشية التوقيع على الاتفاق النووي بين ايران ومجموعة الـ 5+1 صيف 2015 بالمرونة البطولية.
ومنذ عام 2015 لم يأت خامنئي على ذكر “صلح الحسن” الى أن استحضره بتاريخ 9 أيار / مايو الماضي بتغريدة قال فيها: “أعتقد أن الإمام الحسن هو أشجع شخصية في تاريخ الإسلام، حيث قام بالتضحية بنفسه وباسمه بين أصحابه المقربين منه، في سبيل المصلحة الحقيقية، فخضع للصلح، حتى يتمكن من صون الإسلام وحماية القرآن وتوجيه الأجيال القادمة”.
إنها شجاعة الحسن إذن، وليس حسين العصر، تلك التي أراد خامنئي اسقاطها على نفسه عندما سار بالاتفاق النووي مع واشنطن وغيرها رغم الهواجس التي واكبته، انطلاقا من الدرس الذي استنبطه من الأحداث الموالية لتوقيع معاهدة الصلح بين الحسن ومعاوية الذي ألغى المعاهدة بعد وفاة الحسن.
انه الإمام الحسن، الذي استغرقت سيرته ومسيرته نحو ثلثي خطاب حسن نصرالله ليلة تاسوعاء العاشر من محرم. وذلك خلافا لعادة نصرالله خلال غالبية أحاديثه العاشورائية في التركيز على مزايا الحسين وشخصيته الجهادية الثائرة، والمستخدمة بهدف تعبئة وتجييش قواعد حزب الله ومناصريه ورفع مستوى حماسهم. وقد استرسل نصرالله وأسهب في شرح طبيعة الصراع مع معاوية وصولا الى عرض الشروط الخمسة عشر التي وضعها الحسن للصلح “أو التسوية السياسية” الذي طلبه معاوية.
انه الحسن، الذي وكما أشرنا أعلاه سبق وأن امتدح شجاعته المرشد الإيراني. وهي الشجاعة التي توقف نصرالله مطولا عندها أيضا، وامتدحها بشكل غير مسبوق، وصولا الى تشديده في خطابه العاشورائي عدة مرات بالقول “أن صلح الحسن هو الذي حفظ الإسلام سنة 41 للهجرة.. وأن الحسين سار على نهج الحسن بعد وفاته تسع سنوات ونصف”.
وبعيدا عن الاعتبارات الفقهية لدى أئمة الشيعة، فإن استحضار نصرالله المركّز بعد خامنئي واستعادته المسهبة لصلح الحسن، في مناسبة مكرّسة للحسين عادة. يطرح الكثير من الأسئلة حول الإسقاط على الصلح المفروض عليهما، والذي يبدو أن شروطه ستكون لمصلحة العدو الذي تنوي ايران وذراعها في لبنان حزب الله الدخول فيه.
انه الصلح الذي لأجله غير نصرالله مبدأه المزمن “لا نبالي أوقعنا على الموت، أم وقع الموت علينا” إلى مبدأ جديد “الصلح لحفظ الإسلام”. ما يشي بأن حزب الله وايران استشرفا بوضوح كامل مخاطر حقيقية تتهدّدهم وجوديا، كتلك المخاطر التي وجد الحسن نفسه فيها، ما اضطره الى عقد الصلح المشروط مع معاوية. وما يعني ايضا أن مسار المفاوضات الأميركية الإيرانية، قد دخل منعطفا جديا حاسما يستدعي من نصرالله وخامنئي (الذين استنفذوا أغراضهم من استحضار الحسين والاستثمار على مظلوميته لعقود خلت)، استدعاء الامام الحسن من خزائن التغييب الطويلة، لتهيئة الرأي العام وبيئتهم الخاصة للصلح الذي يخشونه وسيقعون فيه وسيوقعون عليه، سيما لو كان هذا الصلح وفق الشروط الاثني عشر التي سبق وطرحها الرئيس الأميركي ترامب لتوقيع صفقة جديدة مع ايران تتضمن بشكل رئيس، خفض التخصيب النووي، معالجة الصواريخ البالستية، وفكفكة أذرع ايران الخارجية وفي مقدمها صواريخ حزب الله الدقيقة.
وقد سبق كلام نصرالله وخامنئي عن “صلح الحسن”، تهديدات كثيرة أطلقها نصرالله وقادة ايران ضد الكيان الإسرائيلي، وفيما أعلن نصرالله عن قدرة صواريخه للوصول الى ما بعد ما بعد ما بعد حيفا، فقد أعلنت طهران مرارا وبلسان غالبية رموز نظامها، عن قدرة ايران على تدمير اسرائيل خلال 7 دقائق ونصف. لكن قادة ايران، بلعوا تهديداتهم وقالوا بلسان قائد الحرس الثوري حسين سلامي: “إن الظروف غير مؤاتية لتدمير إسرائيل”.
انها الظروف التي يواكبها انفجارات غامضة، أصابت الكثير من المواقع الاستراتيجية والهامة في ايران، وايضا قصف صاروخي مسير ومخير معلوم وغير مجهول في العراق وسوريا. وهناك من يرجح تصنيف انفجار مرفأ بيروت، ضمن فصيلة الانفجارات الغامضة، خصوصا بعدما تكشفت الكثير من المعطيات الأوروبية والأميركية حول تورط ايران وحزب الله باستخدام مرفأ بيروت كمركز خزن وشحن وتوزيع لنيترات الامونيوم، فيما بعض التحقيقات المتعددة الجنسيات تقول ان الكمية التي انفجرت لا تتجاوز 300 كلغ ما يعزز التقارير الألمانية المعروفة في الشحن والخزن والتوزيع.
كما ترجح بعض المعطيات المتداولة أن يكون سبب تفجير المرفأ ليس بحادث عرضي أو تخريبي، بل إنه عمل عدواني لم يسقط فرضيته الرئيس اللبناني ميشال عون، لكنه أسقط صلاحياته في منع انفجاره، لان صلاحياته كانت منشغلة بكامل كفائتها في حفظ التشكيلات القضائية وعدم توقيع مراسيمها وكذلك مراسيم تعيين بعض خفراء الجمارك حفاظا على المناصفة الطائفية.
انه العمل العدواني الذي أكثر من يتقن استخدامه جهاز الموساد، الذي سبق لرئيسه الأعلى نتنياهو أن رفع خريطة في الأمم المتحدة، تحدد مرفأ بيروت، ضمن عدة مواقع صاروخية لحزب الله في بيروت وضاحيتها الجنوبية.
ومن البديهي أن ينفي حسن نصرالله هذه الفرضية المرجحة، كما ومن الطبيعي أن تنفذ إسرائيل مثل هذه الضربة، لتوجه من خلالها رسالة إرعابية لحزب الله وبيئته على السواء، في محاكاة إسرائيلية لفرضية مماثلة مفادها: ما جرى في مرفأ بيروت، نموذج واضح لما سيحصل في الضاحية، اذا ما نفّذ حزب الله تهديده بالثأر لمقتل أحد عناصره في سوريا.
وللمناسبة فقد قتل الإسرائيليون العديد من قادة وعناصر حزب الله، وبينهم عماد مغنية، وتعهد نصرالله بالثأر لهم ولم يثأر حتى اليوم. وبات تهديد نصرالله بالثأر من إسرائيل، مشابها لصواريخ ايران الصوتية، ولاحتفاظ الحكومة السورية بحق الرد في المكان والزمان المناسبين.
لغة “الصلح” المستجدة على لسان نصرالله، تشكل بدون أدنى شك، تحولا سياسيا تكتيا لدى حزب الله. فهي اللغة التي تأتي غداة اعلان المحكمة الدولية حكمها باغتيال رفيق الحريري. وهو الحكم الذي أدين به القيادي في حزب الله سليم عياش، والذي لم يعلق عليه نصرالله. وهي اللغة التي تأتي بعد ارتفاع وتيرة العقوبات الأميركية على حزب الله، ويرجح أن تشمل بعض حلفائه البارزين.
كما انها اللغة التي تأتي بعد هتاف “لا اله الا الله، نصرالله عدو الله” الذي أطلقه مشيعي حركة أمل لأحد عناصرهم “حسين خليل” المقتول برصاص حزب الله لأسباب تتعلق بلافتة عاشورائية. وهو الهتاف الذي اقتبسه من حركة أمل عشائر العرب في خلدة جنوبي بيروت خلال تشييع أحد أبنائهم المقتول برصاص حزب الله وأيضا لأسباب تتعلق بلافتة عاشورائية. كل هذا وغيره يأتي بعد الحدث غير المسبوق والمتمثل في تنفيذ عملية شنق مجسم كرتوني لحسن نصرالله، قبل إحراقه في ساحة الشهداء وسط بيروت.
لغة الصلح المستجدة هذه أتت بعد تجرؤ شرائح مدنية وشعبية واسعة ومن مختلف المناطق اللبنانية على تهشيم صورة نصرالله وحزبه بوصفه المسؤول ما قبل الأول عمّا وصل اليه حال لبنان وأحوال اللبنانيين.
وفي خطابه الغاضب مضمونا والمتجلبب بالهدوء شكلا. صبّ نصرالله جام غضبه على الاعلام، وتحدث بكثير من السطحية، عن غرفة سوداء واحدة تمارس الضخ والقصف الإعلامي المركز عليه قبل حزب الله. وقد طلب زعيم حزب الله وبلغة تحذيرية مقاطعة قنوات العربية والحدث وسكاي نيوز وبعض الصحف. وهي المقاطعة التي ظاهرها عدم مشاهدة هذه القنوات، كما وعدم قراءة تلك المقالات والتحليلات، فيما باطنها تهديدي ربما أوكل أمر معالجتها لفرقة سليم عيّاش.
مشكلة السيد نصرالله، أنه يعيش مأزق التناقضات القاتلة. ففيما تمكن عبر السنوات الماضية من إخضاع القوى السياسية الحليفة والمعارضة، وتشارك معها في سلطة ينفرد في نظم حبكاتها وصوغ توازناتها، كما ورسم معادلات المنطقة. فإنه يجد نفسه اليوم وحزبه، في مواجهة حادة وعنيفة وقاسية مع شارع لبناني، يعتبر أن حزب الله بوصفه الراعي ما قبل الأول لمنظومة الأمونيوم والفساد والانهيار المالي والاقتصادي، بات العقبة الكأداء التي تمنع نهوض لبنان واستقراره وازدهاره. شارع لبناني صرخ الاف المرات “كلن يعني كلن ونصرالله واحد منن”.
انه الشارع الذي بات جزءا أساسيا من أي عملية سياسية مقبلة، سيما بعدما هدّد نصرالله هذا الشارع وتوعده بلاءات معروفة، اختتمها بحكومة حسان دياب التي سقطت هي والعهد المأبون في حفرة الأمونيوم التي ينبغي أن تدفن فيها الطبقة السياسية برمتها ومعهم مشاريعهم الفتنوية المدمرة.
ولعل آخر ما تفتقت عنه عبقرية بعض اعلام الممانعة في هذا السياق، نشرها تسريبات قضائية طلبت التوسع بالتحقيق مع عامل سوري (ربما اسمه: احمد أبو عدس) شارك في تلحيم أبواب العنبر رقم 12، وقد تضمن هاتفه صورا تضعه في دائرة “الارهاب السني”.
أخيرا، تبقى الأنظار شاخصة الى ما ستنتجه زيارة الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون الى بيروت غير صورته التذكارية مع فيروز، فمبادرته في عقد سياسي جديد وخريطة الطريق التي أعلنها لمنع لبنان من الزوال والتي رحب بها نصرالله، تستجيب لمحاولة تثبيت فرنسا لموقعها من الذوبان، بفعل غزوات الرئيس التركي الممتدة من غربي ليبيا المتوسطية، باتجاه قبرص واليونان شرقي المتوسط تنقيبا عن النفط. ما يعني أن ماكرون يحاول عبر خطوطه المفتوحة مع ايران وحزب الله، محاولة التوازن مع اردوغان، ولو على حساب أبناء “الأم الحنون” ومشروعهم في حياد لبنان وتحييده عن صراعات ومحاور المنطقة.
علي بن شندب