بداية” نترحم على روح الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات أبو عمار قائد حركة التحرير الفلسطينية لخمسة عقود من الزمان حتى استشهاده في الحادي عشر من شهر نوفمبر عام ٢٠٠٤م، وكان أبو عمار يطلب الشهادة في كل محطاته التاريخية مقدما روحه فداء” لفلسطين التي ناضل من أجلها طوال مسيرته، وتعرض خلال تلك المسيرة النضالية لكثير من المواقف التي كادت تعجل بشهادته، لكن إرادة الله سبحانه أن يكمل هذا الزعيم رسالته، وما أجمل هذه المسيرة عندما تكون بوصلتها الدفاع عن فلسطين بقدسها وأقداسها أرض الرسالات ومهبط الانبياء، ذكرها الله في كتبه السماوية مبينا فضلها، وبدأ سورة الاسراء بذكر المسجد الأقصى وخصه وما حوله بالبركة فقال تعالى: “سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير” فجاء القرار الإلهي من فوق سبع سماوات مؤكدا سموها وعظمتها، وما أجمل هذه الكلمات عندما تدندن في الذاكرة الوطنية الفلسطينية ويرتبط بها هذا الشعب العظيم الذي قدم خلال تاريخه سجلا حافلا بالملاحم والفداء والنضال، مقدما قوائم طويله من الشهداء لم ولن تنته حتى يأتي أمر الله، هو شعب الانتفاضات والابتلاءآت والرباط الى يوم القيامة، فلا عجب أن يقود هذا الشعب العظيم زعيما تاريخيا بقامة المناضل الشهيد ياسر عرفات أبو عمار الذي بقي اسمه خالدا في التاريخ كرمز كبير من رموز النضال العربي، وارتبط اسمه بالقضية الفلسطينية لعدة عقود .الزعيم ياسر عرفات أبو عمار مر خلال تاريخه بمحطات رئيسية كبرى ينبغي أن نعرج عليها عند تأبينه في ذكرى رحيله السابعة عشر، فلقد فطرت هويته الوطنية على النضال المسلح منذ بواكير عهده أثناء دراسته بالقدس الشريف في الثلاثينيات من القرن الماضي، حيث بدأ فكره النضالي يتأسس مع انداع الثورة الفلسطينية عام ١٩٣٦م ومنذ ذلك الحين تشكلت شخصيته الوطنية وتشربت مفردات التحرير والنضال، إلا نكبة فلسطين عام ١٩٤٨م أحدثت هزة عنيفة في كيان أبو عمار، وشاءت الاقدار أن يعود أبو عمار الى القاهرة لدراسة الهندسة المدنية في جامعة القاهرة حينما كانت تسمى جامعة فؤاد، وهناك تعززت شخصيته القومية لا سيما مع قيام ثورة الضباط الاحرار، وإحياء المشروع العربي المرتكز على الحرية والاشتراكية والوحدة والعدالة الاجتماعية وبناء جيش قوي واقتصاد معتمد على ذاته ونجحت مصر عبدالناصر في تصدير هذه الثورة الى الاقطار العربية وتفاعلت معها الجماهير العربية من المحيط الى الخليج، وشارك أبو عمار عام ١٩٥٦م في صد العدوان الثلاثي عن مصر، ثم انتقل بعدها مباشرة ليعمل مهندسا بالكويت ليؤسس الى جانب رفيق دربه خليل الوزير أبو جهاد حركة تحرير فلسطين التي اختصرت الى حركة فتح واعتمدت النضال المسلح موجهة” بندقيتها نحو كيان الاحتلال، وتم تأسيس أول مكتب للحركة في الجزائر عام ١٩٦٥م، وفي العام ١٩٦٧م تصدر اسم الزعيم الفلسطيني أبو عمار حركة النضال الفلسطيني انطلاقا من الاراضي الاردنية واستطاع عبر مجموعاته المسلحة أن يربك الاحتلال ويكبده خسائر فادحة بشكل مستمر، وبعد النكسة استمرت قافلة النضال الفلسطيني حيث تلقت التنظيمات الفلسطينية دعما كبيرا من قبل الزعيم جمال عبدالناصر وقد اعتبر عرفات ممثلا للشعب الفلسطيني ليواصل خط النضال مرتبطا بقضيته التي عاش واستشهد من أجلها، وفي عام ١٩٦٩م انتخب عرفات رئيس اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، فكان قدر أبو عمار مرتبطا بحركة التحرير الفلسطينية، وبعد احداث أيلول الاسود في سبتمبر عام ١٩٧٠م انتقل عرفات من عمان الى بيروت ليستكمل مشوار النضال المسلح الى جانب بقية التنظيمات الفلسطينية المسلحة مثل الجبهة الشعبية والديمقراطية لتحرير فلسطين والجهاد الاسلامي، ثم حركة حماس ولجان المقاومة التي تأسست لاحقا .ألقى الرئيس أبو عمار خطابا تاريخيا في ١٣ نوفمبر ١٩٧٤م بالامم المتحدة مطالبا حكومات دول العالم مساندة الشعب الفلسطيني في تقرير مصيرة وقال مقولته الشهيرة: “إنني جئتكم بغصن زيتون مع بندقية ثائر، فلا تسقطوا الغصن الأخضر من يدي.. الحرب تندلع من فلسطين والسلم يبدأ من فلسطين” واستمر نشاط حركة التحرير الفلسطينية بقيادة ابو عمار منطلقا من الاراضي اللبنانية بين عامي ١٩٧٨م و١٩٨٢م وتعرضت مقراته لضربات من قبل المحتل حتى تم اجتياح بيروت، فخرج عرفات ناقلا قيادته الى تونس الخضراء بعد عمان وبيروت، وهناك طالت يد الموساد أبرز رفاق أبو عمار وهما خليل الوزير أبو جهاد وصلاح خلف أبو اياد، لكن الرئيس ياسر عرفات استطاع الحفاظ على وحدة منظمة التحرير الفلسطينية مواصلا مسيرة النضال المقدس .عام ١٩٨٨م أعلن ياسر عرفات قيام الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس الشريف، وألقى خطابا بالامم المتحدة معلنا الاعتراف ب”اسرائيل” ومؤكدا على حق دول الشرق الاوسط العيش بسلام، وهو ما فسره البعض تخلي المناضل الفلسطيني الأول عن بندقيته ولكن أبا عمار وجد أن الواقع العربي والدولي والفلسطيني يتطلب قيادة تلك المرحلة بالسلام مع الاحتفاظ بمسافة غير بعيدة عن فصائل النضال المسلحة كقائد لمنظمة التحرير الفلسطينية، وحفلت فترة التسعينيات بتوقيع عدة اتفاقيات أولها اتفاق اوسلو عام ١٩٩٣م وقد تمكن أبو عمار من العودة الى قطاع غزة في يوليو ١٩٩٤ بعد ٢٧ عاما قضاها في المنفى، ليواصل بعدها مسار السلام بتوقيع اتفاق القاهرة ١٩٩٤م ثم اتفاق طابا ١٩٩٥م حيث توسع نطاق الحكم الذاتي الفلسطيني فشمل الضفة الغربية وقطاع غزة، وفي عام ١٩٩٨م وقع عرفات اتفاق واي ريفر ثم اتفاقية كامب ديفيد الثانية عام ٢٠٠٠م وذلك في لقاء ثلاثي مع الرئيس الامريكي بيل كلنتون ورئيس الوزراء الاسرائيلي ايهود باراك، بعدها عاد أبو عمار في عام ٢٠٠١م ليؤكد على تمسكه ببنود السلام رافضا مقترحات كلنتون التخلي عن حق العودة واعتبار القدس مدينة مفتوحة بها عاصمتان واحدة لفلسطين والاخرى لليهود، هنا يتبين موقف القائد عرفات بعدم تفريطه في أي حق من الحقوق التاريخية الفلسطينية، وتمكن ابو عمار كقائد سياسي من المحافظة على قيادة العمل الفلسطيني ممسكا بخيوط القضية آخذا بالاعتبار ظروف المرحلة فهو لم يقبل التفريط بحقوق الشعب الفلسطيني وفي نفس الوقت استمرت علاقته بالمقاومة وحركات النضال المسلحة، لذلك بقي عرفات رمزا في قيادة النضال الفلسطيني، ولا يمكن لصاحب ذلك التاريخ أن يتخلى عن رمزيته النضالية بل ظل أحد أهم رموز النضال الوطني الفلسطيني تميز بفلسفته القيادية الحفاظ على مسافة محددة من الجميع، فلم يفقد بوصلة التحرير ولم يخرج من قيادة العمل الفلسطيني، وإن حدثت بعض الاختلافات مع رفاق المسيرة الفلسطينية.خلال الانتفاضة الفلسطينية الاولى انتفاضة الحجارة عام ١٩٨٧م حملت الولايات المتحدة ودولة الاحتلال الرئيس أبو عمار مسئولية تلك الاحداث، وبعد عقد ونصف من الزمان اشتعلت الانتفاضة الثانية لكن الرئيس عرفات بقي أيقونة النضال الفلسطيني، حينها ساءت العلاقة مع كيان الاحتلال فوصلت الى طريق مسدود حيث لم يجد الاحتلال من القائد عرفات إلا شخصية المناضل الصلب الثائر الذي يحمل رمزية الكفاح من أجل التحرير، خصوصا بعد زيارته لمصابي الانتفاضة والتي تشد من أزر المقاومة واعتبار أبو عمار قائدا وطنيا لحركة التحرير الفلسطينية، وهنا تبرز قدرة الزعيم الفلسطيني في توظيف السياسة حسب مقتضيات ظروفها السياسية الى جانب التمسك بخيوط النضال المسلح الذي لم تنقطع علاقته به، وكان أبو عمار يكرر أمنيته بالشهادة ويكررها دائما فتحقق له ما تمنى يوم ١١ نوفمبر ٢٠٠٤م .الرئيس الشهيد ياسر عرفات – رحمه الله من القادة المحنكين فقد كان يعرف كيف يمسك بخيوط القضية ويضع نفسه كرقم صعب في المعادلة الفلسطينية والدولية، لديه قدرة كبيرة على توظيف الاوراق لصالح القضية الفلسطينية، ناضل لأكثر من ثلاثة عقود حاملا بندقيته دفاعا عن القضية، وفاوض عندما تجردت القضية من ركائز الدعم العربي فوجد الرئيس عرفات أن يتعامل مع ذلك الواقع السياسي، إلا أنه لم يفرط بأي من الحقوق الفلسطينية، لانه يعلم جيدا أن التاريخ يكتب بتجرد وأنه يحمل أمانة تاريخية في هذه القضية، كما أنه كان دائم الاتصال بقيادات الفصائل المسلحة لم يفرط بهذه الورقة حيث يعلم أنها طريق التحرير، وبعد نضال طويل وقيادة لحركة التحرير الفلسطينية أدرك أبا عمار أن الموعد اقترب للالتحاق برفاق دربه، وأن الشهادة التي كان يطلبها منذ أول يوم سلك فيه هذا المسار قد اقتربت مرددا أمنيته بأن يموت شهيدا على درب النضال المقدس، وهنا يشير الكثير من المتابعين الى تعرض الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات الى التسمم الاشعاعي الذي أنهى مسيرة حياته التي ناضل فيها من أجل القضية الفلسطينية، مختتما ذلك التاريخ الطويل فكانت رحلة العلاج الى فرنسا خاتمة لحياة هذا المناضل الفلسطيني الذي يعتبر رمزا من رموز النضال الفلسطيني، ولم يكتف أعداء أبو عمار من محاربته حيا بل تعرض لمحاولات إساءة وتشويه لصورته بعد رحيله من خلال عرض صور مسيئه لتاريخه إحداها مع شخصية صهيونية تمت فبركتها عبر برامج ألكترونية بغرض اسقاطه من رمزيته النضالية أمام جيل الشباب العربي، لكنه ظل رمزا للنضال الفلسطيني يستلهم منه جيل الشباب العربي سيرة النضال ونموذج القائد الوطني المتمسك بقضيته، لذلك يظل أبو عمار بطل ورمز فلسطيني يحيي شعاع الأمل والنضال في الأجيال، ويرتبط اسمه بتاريخ القضية الفلسطينية لتظل راسخة بقوة في وجدان الشعوب العربية وحاضرة في ذاكرة الاجيال، واليوم يحيي القوميين العرب ذكرى رحيله مستأنسين بهذه المسيرة النضالية التي شكلت خمسة عقود من تاريخ القضية الفلسطينية، وسيظل أبو عمار أحد رموز النضال الفلسطيني، لقد حقت له الشهادة كما نالها رفاق دربه من قبل، رحمك الله يا أبا عمار وأكرم مثواك وأسكنك فسيح جناته .
خميس بن عبيد القطيطي