مع زيادة تعقيد أجواء الانتخابات الرئاسية الأمريكية يزداد القلق بخصوص مردود ذلك على إقليم الشرق الأوسط الذى يعيش ذروة التفاعلات الأمريكية أكثر من أى إقليم آخر فى العالم. لكن يبدو أن التحديات الإقليمية المتجددة فى الشرق الأوسط أضحى فى مقدورها إحباط الكثير من الطموحات الأمريكية التى يمكنها “تجميل” أو حتى دعم “الوضع الانتخابى” للرئيس دونالد ترامب. كان الأسبوع الماضى مشحوناً بالتوتر غير المتوقع من جانب الرئيس ترامب وحملته الانتخابية خاصة ما حدث من عودة العنف العرقى للتفجر مرة أخرى وفى ولاية ويسكونسن عندما أطلق شرطى النار على مواطن أمريكى أسود فى مدينة كينوشا فأصابه بسبع رصاصات فى ظهره أمام أعين أبنائه الثلاثة، ما ترتب عليه إصابة الرجل بشلل دائم حسب تأكيدات محاميه.
العنف العرقى الذى تزامن مع تلاوة الرئيس ترامب خطاب قبوله ترشيح الحزب الجمهورى له كمرشح رئاسى، تفاقم خاصة ليل الثلاثاء الفائت (25/8/2020) عندما أطلق شاب أبيض يبلغ من العمر 17 عاماً النار على ثلاثة من المتظاهرين ما أسفر عن مقتل شخصين منهم. كما تفاقم العنف وبلغ ذروته بتهديد الرئيس ترامب بإنزال قوات “الحرس الوطنى” لقمع المتظاهرين، ليجدد إخفاقه فى تحقيق السلم الداخلى ويعمق انحيازاته العرقية. تزامن ذلك مع عودة متجددة لتفاقم خطر انتشار “فيروس كورونا” وعجز السلطات عن احتوائه. تطورات تصب إيجابياً فى صالح منافسه الديمقراطى جون بايدن الذى بادر بالدفاع عن المتظاهرين فى ولاية ويسكونسن وأدان عجز السلطات عن حماية المواطنين من خطر الفيروس.
هذا الإخفاق الداخلى يتزامن مع إخفاق لا يقل وطأة للسياسة الخارجية الأمريكية فى الشرق الأوسط. ففى مجلس الأمن الدولى تعرضت الولايات المتحدة، وللمرة الثانية فى أقل من عشرة أيام، لمواجهة شرسة من حلفائها الأوروبيين الثلاثة شركاءها فى التوقيع على الاتفاق النووى مع إيران عام 2015 (ألمانيا وفرنسا وبريطانيا) عندما قررت هذه الدول الثلاثة، إضافة إلى كل من روسيا والصين بالطبع، رفض الطلب الأمريكى بتفعيل ما يعرف بـ “آلية الزناد” (سناب باك) الوارد النص عليها فى الاتفاق النووى ضد إيران بتهمة أن إيران لم تلتزم بالاتفاق الذى وقعت عليه. هذه الدول رفضت الطلب الأمريكى، الذى جاء كرد فعل لفشل واشنطن فرض قرار على مجلس الأمن يقضى بتمديد حظر الأسلحة المفروض على إيران من جانب المجلس منذ عام 2007 والذى من المقرر أن ينتهى الإلتزام به، وفقاً لنص الاتفاق النووى فى 18 أكتوبر المقبل. ما يعنى أنها دخلت فى مواجهتين حاسمتين مع حليفها الأمريكى داخل مجلس الأمن فى أقل من عشرة أيام وكانت حاسمة فى إعلان أن الولايات المتحدة ليس من حقها قانوناً أن تتقدم بهذا الطلب بتفعيل تلك الآلية ضد إيران لسبب محدد هو أن الولايات المتحدة لم تعد طرفاً فى الاتفاق النووى منذ انسحابها منه فى مايو 2018.
إخفاق السياسة الخارجية الأمريكية امتد من مجلس الأمن إلى إقليم الشرق الأوسط نفسه. فقد أجرت إيران مفاوضات ناجحة مع رافائيل جروس رئيس الوكالة الدولية للطاقة الذرية الذى زار طهران الثلاثاء الماضى، ووافقت على طلب الوكالة بدخول مفتشيها إلى موقعين نوويين إيرانيين لدى الوكالة بعض الشكوك بخصوصهما. قبول هذا الطلب دعم موقف إيران أمام الوكالة الدولية للطاقة الذرية، ولم يعد ميسراً أمام الولايات المتحدة أن تفرض على الوكالة توجيه اتهامات صريحة لإيران بعدم الالتزام بالاتفاق النووى لتبرير و”شرعنة” طلبها إخضاع إيران “لآلية الزناد” (سناب باك) بقرار من مجلس الأمن الدولى، لكن ما هو أهم هو فشل جولة وزير الخارجية الأمريكى مايك بومبيو الشرق أوسطية، التى قام بها الأسبوع الفائت، فى تحقيق أهدافها، سواء هدف توسيع دائرة تطبيع علاقات دول عربية بدولة الاحتلال الإسرائيلى أو هدف محاصرة إيران والصين حسب ما صرح به بومبيو قبل القيام بهذه الجولة.
زار بومبيو البحرين وسلطنة عمان والسودان إلى جانب الإمارات والكيان الإسرائيلى، ولم تشمل زيارته السعودية، ما يعنى أن السعودية قد تكون خارج دائرة التطبيع فى الوقت الراهن، والأمر المؤكد أن هناك أسباباً مهمة حالت دون زيارة بومبيو الرياض كما حالت دون إعلان تأييد سعودى واضح لاتفاق التطبيع الإماراتى- الإسرائيلى. وبالطبع لا يقل أهمية أن أياً من الدول الثلاث العربية الأخرى: البحرين وسلطنة عمان والسودان، لم تعلن لا أثناء زيارة بومبيو لها، ولا بعد رحيله عنها يؤكد دخولها ضمن دائرة التطبيع، وهذا الموقف يعد فشلاً لجولة بومبيو، والأهم أنه فشل جاء بالخسارة على معركة الرئيس ترامب الانتخابية الذى بات فى أمس الحاجة لانتصار أو حتى لنجاح خارجى يعدل به موقفه الانتخابى المتراجع، لكن الفشل الأهم الذى واجه جولة بومبيو التى كان يعوَّل عليها كثيراً من جانب منظمى حملة ترامب الانتخابية أنه لم يتمكن من إحراز أى نجاح بالنسبة لمواجهة ما يعتبره خطراً إيرانياً- صينياً.
كان ملفتاً أن يربط بومبيو، الذى يعتبر الرجل القوى فى إدارة السياسة الخارجية الأمريكية والذى يقف على رأس صقور البيت الأبيض بين إيران والصين والصراع الدائر فى الشرق الأوسط. فالعداء الأمريكى للصين باعتبارها العدو الأول للولايات المتحدة فى إقليم جنوب شرق آسيا ليس فى حاجة إلى تأكيد، لكن الجديد هو التعامل مع الصين كعدو للولايات المتحدة فى إقليم الشرق الأوسط ومن منظور العلاقة بين الصين وإيران، لأن هذا الربط بين بكين وطهران أمريكياً يعتبر متغيراً شديد الأهمية فى توازن القوى الإقليمى وفى إعادة هندسة خرائط التحالفات والصراعات، حيث تتجه الصين لتأسيس شراكة استراتيجية شديدة الأهمية مع إيران من خلال الاتفاق الذى تم الافصاح عنه للمرة الأولى بين الصين وإيران فى سبتمبر 2019، وجاء ترجمة لإعلان النوايا الذى صدر عقب زيارة الرئيس الصينى تشى جونج يانج لطهران (يناير 2016).
وعلى الرغم من أن هذا الاتفاق الذى كشفت بعض تفاصيله صحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية (يوليو 2020) والذى أعلن أنه يتضمن استثمار الصين لـ 400 مليار دولار فى طهران، لم تكتمل بلورته بعد ولم يعرض على البرلمان الإيرانى للتصديق عليه إلا أنه أصاب كبار المسئولين السياسيين والعسكريين فى الكيان الإسرائيلى بحالة من الهلع حسب ما كشفت الصحافة الإسرائيلية فى تعليقها على مضمون هذا الاتفاق.
فقد اعتبر عاموس هرئيل كبير المحررين العسكريين فى صحيفة “هآرتس” ونقلاً عن مصادر سياسية وأمنية إسرائيلية أن الصين “تقوم بتجنيد إيران للمواجهة ضد الولايات المتحدة الأمر الذى سيؤدى إلى جعل مهمة محاربة البرنامج النووى الإيرانى صعبة جداً”، كما اعتبر أن الاتفاق، فى حال إقراره رسيماً، “سيسمح للصين بوضع موطئ قدم مهم جداً فى المنطقة”. أما رون بن يشاى محلل الشئون الأمنية والعسكرية فى صحيفة “يديعوت أحرونوت” فقد اعتبر أن الاتفاق “سيشكل عجلة إنقاذ للاقتصاد الإيرانى”، لكن الأهم، من وجهة نظره، أنه كاتفاق اقتصادى واستراتيجى “سيقضم بشدة مكانة الولايات المتحدة كقوة عالمية وكمصدر مؤثر ومسيطر فى الشرق الأوسط”. كما أن تنفيذ البنود المتعلقة بالتكنولوجيا والتعاون العسكرى والاستخبارى بين بكين وطهران “سيضر بقدرة الولايات المتحدة وإسرائيل على إحباط البرنامج النووى الإيرانى خاصة إذا قررت إيران التقدم فى مجال تصنيع القنبلة النووية، ولذلك سيكون لدى إسرائيل سبب للقلق من زاوية رؤية استراتيجية- عسكرية واستخباراتية”.
تطورات شرق أوسطية مقلقة للولايات المتحدة ليس فقط من منظور العجز عن توفير انتصار أو حتى مكسب أمريكى له أهميته يمكن توظفيه انتخابياً لدعم الحملة الانتخابية للرئيس ترامب، ولكن أيضاً من منظور قدرة هذه التطورات على تغيير “قواعد الاشتباك” فى المنطقة بين الولايات المتحدة وإسرائيل فى مواجهة إيران، فخيار الحرب ضد إيران، أو حتى أى من حلفائها بات خياراً محفوفاً بالمخاطر التى يمكن أن تشكل انتكاسة هائلة لحملة ترامب الانتخابية فى حال فشل هذا الخيار. كما أن استبعاد “خيار الحرب” ضد إيران خلال الشهرين المتبقين على الانتخابات الأمريكية، يعنى أن الشرق الأوسط سيكون أمام استحقاقات جديدة ليست فى صالح الكيان الإسرائيلى وحلفائه خاصة إذا فشل الرئيس الأمريكى ترامب فى كسب هذه الانتخابات.
د. محمد السعيد إدريس
جريدة الأهرام 1/9/2020