قدري أن أزور اليمن السعيد مرتين؛ الزيارة الأولى كانت رسميّة حيث كنت شاهدًا على احتفالية التوقيع على ترسيم الحدود بين السلطنة واليمن في أكتوبر عام ١٩٩٢م، وتزامنت في نفس الوقت مع احتفالات اليمن السعيد بالوحدة بين شطري اليمن.. الشمال والجنوب فالبلدان يقعان على موقع استراتيجي بين مضيق هرمز وباب المندب، مما جعل لهذه الاتفاقية مردودا إيجابيا على مستوى العلاقات الاقتصاديّة والسياسيّة بين الجارين الشقيقين. في هذه الزيارة التاريخية كنت في بداية مشواري العملي في بلاط صاحبة الجلالة، وقد اتيحت لي الفرصة في اجراء حوارين مع كل من الرئيس علي عبدالله صالح والرئيس عبدالله السلال، علاوة على لقاءات وحوارات صحفية مع عدد من المسؤولين والمثقفين في اليمن، ومنذ الوهلة الأولى التي تطأ فيها قدماك أرض اليمن يمكنك أن تحكم على صلابة وقوة هذا الشعب الذي يعيش ويتعايش من أجل رغد العيش والتأقلم مع الحياة بحلوها ومُرّها، أذكر أنني وصلت اليمن باكرًا وعقلي يحدثني قبل كل شيء عن أهميّة زيارة باب اليمن، ربما لأنني قرأت عن هذا الباب العظيم في مقالات الدكتور والشاعر عبدالعزير المقالح وكنت اتخيّل الباب وكأنه أحد أبواب المدن البيزنطيّة، التي تتصف بالفخامة والوجاهة، أو باب مراكش، وفعلا كان باب اليمن كما تصورته يضاهي كل ابواب الدنيا، فقد نُقش على الحجر بأيادٍ يمنيّة. .سيدهشك كيف بنى اليمنيّون هذا الباب الذي يعد أحد أهم المعالم السياحيّة في اليمن، استحضرت باب اليمن في زيارتي الثانية والتي جاءت بعد اكثر من خمس عشرة عاما من الزيارة الأولى.. كان برفقتي هذه المرة والدي وعمّي الشيخ سيف بن محمد الطوقي -رحمه الله- وكنّا نحن معه ثمانية من أبنائه أنا وهلال ويحيى وعامر وحمود وحميد وخلفان في رحلة اتّسمت بالمفاجآت.. كانت لمدة عشرة ايام تجولنا فيها بربوع صنعاء برفقة الصديق الدكتور عبدالسلام الكبسي، وهذا الأخير تزاملنا معا في كلية الآداب بجامعة محمد الخامس بالرباط، كانت الرحلة شيّقة بكل ما تعنيه الكلمة إذ طُفنا على عدد من المدن اليمنية مثل كوكبان وثلا وإب وتعز والحديدة وتوقفنا في صعدا حيث معقل الحوثيين. كنا نتوقف في طريقنا ونتجول في الاسواق ومزارع العنب. وكان الشعب اليمني مرحبا وكريما ومضيافا فقد استضافنا في بيوتهم ومزارعهم. وكان كل يوم يمر علينا بذكريات جميلة. كانت وجهتنا من تعز الى عدن لزيارة هذه المدينة التي كانت تعتبر من اكثر المدن تطورا في اربعينيات القرن الماضي على مستوى الشرق الاوسط، ولكن شاءت الاقدار ان يقع علينا حادث سير وكان لطف الله علينا كبير اذ ان الاصابات كانت بسيطة رغم فجاعة الحادث. وتلقينا العلاج في مستشفى الثورة بمدينة تعز، لم تكتمل رحلتنا الى عدن وعدنا الى صنعاء. وكلنا أمل ان نعيد الكرة من جديد ونزور اليمن وعدن.
حدّثنا العم سيف عن مدينة عدن التي زارها قبل خمسين عامًا وعن باب اليمن، في هذا الباب ترى ما لا يمكن أن تراه في أي بلد على وجه البسيطة؛ لوحة بانوراميّة تعكسها عدسة عينيك لتعكس كم هي الحياة جميلة وبسيطة في هذه البقعة من أرض الله الشاسعة.
وعلى مدار السنوات زرت العديد من العواصم العربية والآسيوية والأوروبيّة والإفريقية وجبت بقاع الدنيا ولكني لم أر كجمال صنعاء، وصفاء طقس صنعاء وفن العمارة اليمنيّة التي تتحدى قساوة الحياة..”
صنعاء بلد منقوش على حجر” هكذا قال لي والدي العزيز العم سيف بن محمد الطوقي ونحن نتجوّل بين أروقة باب اليمن، ونتبضّع من الباعة الذين يفترشون الأرض.. كل يبيعُ على هواه وبما يهواه.
من باب اليمن تطل عليك مدينة صنعاء العريقة.. مدينة بُنيت بأيدٍ يمنية.. فقد نحتوا كل شيء؛ الجبل والسفح.. وفي كل وجهة من اليمن تتراءى لك النقوش باهرة وأخّاذة، وتبدو القرى اليمنية المتناثرة فوق قمم الجبال الشاهقة كما لو أنّها شريط يمر أمام ناظريك سريعًا يستعرض مجموعة من أعمال النحّاتين العظام .
سيُدهشك المواطن اليمني المرابط في أرضه عندما ترى كيف بجسمه النحيل هذا استطاع أن يحمل الحجر إلى ارتفاع يزيد عن ثلاثة آلاف متر فوق سطح البحر لينشئ مدينة بأكملها.
هذه هي اليمن التي كنت أعرفها قبل أن يعصف بها الربيع العربي.. فقد كانت تعيش آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدًا من كل مكان إلى أن دخلت في خندق مظلم بسبب الأطماع على السلطة.
منذ عام ٢٠١١م واليمن تعيش حالة من عدم الاستقرار، وقد ازدادت الأوضاع سوءًا بعد أن بدء معركة ما تُسمى عاصفة الحزم ضد الحوثيين.. هذه المعركة التي شردت المئات وقصفت مواقع المدنيين وأربكت دول التحالف لدخولها حربا غير مشروعة ضد بلد من المفروض أن يكون جارا وبينهم قواسم مشتركة.
عمان لم تدخل في هذه الحرب بل وجه السلطان قابوس بن سعيد -طيب الله ثراه – باستقبال وفتح المجال لاستقبال الجرحى وتقديم العلاج المناسب لهم كما سيرت رحلات لتقديم المعونة والغذاء والدواء بسبب الاوضاع المعيشية الصعبة بسبب هذه الحرب الغير العادلة، نحن نستنكر هذه الحرب واذكر إن السلطنة استنكرت قصف منزل السفير العماني في وسط العاصمة صنعاء، طبعًا لم نكن نتوقع أن يحدث هذا الأمر ولو بطريق الخطأ ولكنّ هذا الاستهداف أثار ردودًا سلبيّة من قبلنا كعمانيين واستنكرت السلطنة هذا التصرّف معتبرة أنّه مخالف للأعراف الدبلوماسيّة وللمواثيق الدوليّة .
المتتبع لهذه الحرب يجد أنّ هناك صمتًا دوليًا على مختلف الأصعدة السياسية والإعلامية، ويتساءل المراقبون لماذا هذا الصمت من الصحافة العربيّة والعالمية رغم قسوة الظروف التي تعيشها اليمن من جراء هذه الحرب.
فالغارات على صنعاء ومدن أخرى مستمرة وترعب الأهالي وتقتل مدنيين وأيضًا المواجهات المسلحة بين الفرقاء وخصوصًا في تعز شرّدت النّاس وقتلت الكثيرين.. والأوضاع الإنسانية سيئة للغاية.
قلوب اليمنيين وعقولهم ترنو إلى مسقط وكلهم أمل في أن تكون مسقط” كوضاح” اليمن لإنقاذها بنهجها الدبلوماسي والحوار ومنطق العقل والحكمة. اليمن ستظل مسكونة في قلوبنا كعمانيين نحبها وهي تحبنا .
حمود بن علي الطوقي