إنَّ المُطالبة بإكرام الرعيل الأول أمرٌ يفرضه تسارع الزمن، ولأنَّ الرعيل الأول خفيف الوطء على الخطط المستقبلية؛ وذلك بحكم تعاقب الأجيال، ومُباغتة ريب المنون، فإذا افترضنا أنَّ عُمان في عام السبعين كانت كالأرض الجرداء المهملة حتى أصلحها الرعيل الأول، وقد بدأ بتمهيد هذه الأرض البور وتسويتها وجعلها صالحة للزراعة، فبعد التهيئة والتسميد قام ببذرها وهياستها وقرازتها وسقيها ورفقتها، أي أعاد ريَّها في اليوم التالي، ثم استمرَّ هذا الرعيل الأول في تعهدها بالعناية والرعاية حتى نضجت ثمارها، وقد حان وقت قطافها، فقطف الرعيل الثاني تلك الثمار اليانعة.
ونحنُ إذ نُطلق اصطلاحاً مسمى “الرعيل الأول” على الجيل الذي كان في الوظيفة العامة بين عامي 70-1980م، ونسمِّي الرعيل الثاني في الفترة بين عامي 80-1990م وهكذا دواليك.
فإنَّ الرعيل الثاني الذي تولى بعد ذلك الدورة الزراعية الجديدة أو من أتى من بعده، فإنهم لم يبذلوا نفس الجهد الجسدي والتعب الفكري الذي واجه الرعيل الأول في مرحلة التأسيس والتسوية والتمهيد.
فإنَّ التهيئة قد توافرت لهم، وإنَّ الوسائل الحديثة للزراعة قد خففت من الأعباء التي واجهها الرعيل الأول؛ فالرعيل الثاني وكل من أتى بعده، فإنهم لم يشعروا بنفس المعاناة والإرهاق اللذين يكونان دوماً من نصيب صاحب البدايات الأولى.
إنَّ من يتولى اليوم التطوير والتنمية ليس كمن صارع قسوة الطبيعة والظروف الصعبة؛ حيث كانت الوسائل بدائية ومتخلفة في ذلك الزمن الغابر؛ حيث لا طرق ولا مرافق حديثة ولا مكيفات هواء في السكن، ولا منازل بالطراز الحديث ولا سيارات مُكيفة، ولا أي شيء من حداثة الزمن اللاحق، وإنما أخذ الجيل الجديد الذي أتى لِيَلِي الرعيل الأول مهمة التطوير والتنمية، وذلك على ما وجده قائماً بجهود سلفه من الرعيل الأول.
لذلك؛ يرى المرء المنصف أنَّ الرعيل الأول قد استحق الإكرام والثناء، ولكن برغم كل ذلك فإنَّ معاش التقاعد للرعيل الأول، تجده أقل بالثلث عن معاش التقاعد لمجموعة الرعيل الثاني ومن أتى بعدهم.
لقد كان الأولى بالرعاية والخصوصية، أو حتى المساواة مجموعة الرعيل الأول؛ لا أن ينظر إليهم على أنهم ماضٍ مُنفصل، لأنَّ من ظل منهم على قيد الحياة، فهو يعيش الزمن المعاصر للأجيال التالية، ويأكل كما يأكلون ويلبس كما يلبسون، ويركب كما يركبون، وإنما جيل الرعيل الأول يزيد عليهم بحاجته للرعاية الصحية أكثر ممن أتى بعدهم، وذلك بحكم تقدُّم العمر والشيخوخة الطبيعية، إذن فلا يعقل أن يكون معاش التقاعد أقل بما يوازي الثلث أو أكثر من ذلك.
لقد صبر المتقاعدون من فئة الرعيل الأول، على معاشات أقل عن غيرهم، وهم الذين وضعوا أيديهم بيدي السلطان قابوس بن سعيد -طيب الله ثراه- يوم تولَّى جلالته زمام الأمور في البلاد عام 1970م، وكانت عُمان تعيش في غياهب الظلام والجهل والتخلف، فحاربوا بقيادة المغفور له بإذن الله تعالى الجهل والتخلف، وحاربوا قسوة الحياة، وحاربوا أطماع الخارج، وثورات الداخل، حتى استقرت الأمور، واستقامت الدولة على أركان ثابتة بأيدي أبنائها الأوفياء وسلطانها الفذُّ الحكيم جلالة السلطان قابوس -تغمده الله بواسع رحمته وأسكنه الفردوس الأعلى من الجنة.
وقد واصلوا الصبر وقتما كان السلطان الراحل يقاسي من مرض صعب ومؤلم، وآثروا السكوت والصمت عن المطالبة بتوحيد معاشاتهم مع من أتى إلى الوظيفة بعدهم، وقد استمروا بالصبر الجميل بعدما آل الحكم إلى جلالة السلطان الأمين هيثم بن طارق المعظم -حفظه الله ورعاه- حتى لا يحدثوا ضجيجا وإرباكا وجلالته -أعزه الله- يعالج تراكمات الماضي وتركة الوطن، وهو ينظّم شأن الحكم الرشيد للبلاد، ومعالجة الأولويات الماسة، والضروريات الملحة في تسيير شؤون الدولة.
لكنَّ فئة الرعيل الأول يذكِّرون بحاجتهم الملحة حول تسوية معاشاتهم بغيرهم ممن يناظرونهم في الحقوق والواجبات، وينتظرون من لدن المقام السامي نظرة تكريم للرعيل الأول بيوم سنوي، يذكّر بما قدّموا من جهد مشرّف في إعلاء شأن الوطن، ووسيلة تجمعهم برفاق العمل؛ وذلك من خلال مؤسسات اجتماعية وثقافية، تبقي ترابطهم موصول ببعضهم البعض، وهذه سُنة الله في خلقه عندما جعل الإنسان اجتماعيًّا الطبع، يؤنس وحشته ترابطه الاجتماعي، فإن المرء يستطيع أن يرى اشتياق الناس إلى بعضهم البعض عندما يلتقون في المناسبات، ثم لا ننسى أن المتقاعدين ذخيرة الوطن، وقوته الاحتياطية إذا ما دعا الداعي إليهم.
اللَّهُمَّ احفظ وطننا عُمان، وشعبها الأبيِّ، وأعِز سلطانها الأمين، ووفقه إلى الخير، وسدد خُطاه، واجعل التوفيق والنجاح طريقه يا عزيز يا غفار… اللهم آمين يارب العالمين.
حمد بن سالم العلوي