قبل أشهر معدودة من بدء انخراط إسرائيل فى موجة تطبيعها الجديدة مع دول عربية خليجية (حتى الآن) كانت قد صدرت دراسة مهمة عن مركز أبحاث “بيجن- السادات” فى تل أبيب تتحدث عن خمسة سيناريوهات تهديد تتعرض لها الدولة العبرية منها ثلاث سيناريوهات خارجية تم تحديدها تشكل تهديدات أمنية – عسكرية هى: أن يتأسس تحالف إقليمى عسكرى ضد إسرائيل، وأن يحدث انهيار لأنظمة الدفاع الإسرائيلية بسبب تعرضها لهجوم صاروخى شامل ومتكامل (أى من أكثر من جبهة صراع معادية لإسرائيل) بقيادة إيران وحلفائها وأخيراً أن يحدث توسع فى انتشار السلاح النووى بما يعنى تحييد القدرات النووية الإسرائيلية فى حماية الوجود الإسرائيلى. أما التهديدان الآخران فيمكن توصيفهما باعتبارهما تهديدات سياسية- اجتماعية، الأول يتعلق باحتمال تعرض إسرائيل لعزلة دولية، والثانى يتعلق باحتمال تفكك المجتمع الإسرائيلى لمكونات تماسكه الاجتماعى وتداعى هويته كدولة يهودية إما بسبب ما أخذ يعانيه هذا المجتمع من افتقاد، أو على الأقل، تراجع ما يسمونه بـ “المناعة الداخلية” للمجتمع الإسرائيلى، وإما بسبب اضطرار إسرائيل للأخذ بخيار “الدولة ثنائية القومية” بضم الضفة الغربية وتحول السكان العرب إلى مواطنين إسرائيليين الأمر الذى سيؤدى إلى خلخلة الهيمنة اليهودية على الدولة أمام الأعداد الهائلة من المواطنين العرب.
هذه المصادر الخمسة للتهديد تكشف من ناحية إلى أى مدى يعانى كيان الاحتلال الإسرائيلى من الخطر، على العكس من كل ما يروج له من دعاية تصور هذا الكيان باعتباره “القوة العظمى الإقليمية المتفوقة”، لكن الوعى بهذه المصادر يكشف من ناحية أخرى مدى أهمية موجة التطبيع الحالية مع إسرائيل وخاصة من دول عربية خليجية، لأن هذا التطبيع، وكما يراه الإسرائيليون، وإن كان يكتسب أهمية كبيرة من منظور تحييده للقضية الفلسطينية كمحدد أساسى لعلاقات الدول العربية مع إسرائيل، أى إنهاء دور القضية الفلسطينية كعائق لقيام دول عربية بتطبيع علاقاتها مع إسرائيل، إلا أن الأولوية القصوى لهذه الموجة التطبيعية، من المنظور الإسرائيلى، هى إعطاء كل الأهمية لتأسيس “شراكات إستراتيجية- أمنية” كاملة مع الدول الخليجية منفردة أولاً، ثم العمل على تحويلها إلى “شراكة جماعية” يحكمها “ميثاق دفاع مشترك” يكون مدخلاً لتأسيس التحالف الإقليمى- الخليجي – الإسرائيلى الذى يجاهد وزير الخارجية الأمريكى مايك بومبيو لتأسيسه لمواجهة ما يسميه بـ “الخطر الإيرانى”.
هذا التوجه الإسرائيلى- الأمريكى بتثبيت وجود عسكرى وأمنى واستخباراتى إسرائيلى فى الخليج يقود إلى تأسيس تحالف عسكرى إسرائيلى – خليجى ترعاه وتشرف عليه الولايات المتحدة، هدفه التصدى لأهم مصدرين من مصادر التهديد العسكرى- الأمنى لإسرائيل كما كشفت دراسة “مركز بيجن- السادات” وبالتحديد منع إيران من أن تتحول إلى دولة نووية، والحيلولة دون تمكين إيران من شن عدوان صاروخى مكثف يكون قادراً على تدمير الأنظمة الدفاعية الإسرائيلية وانهيارها. وبتحديد أكثر القضاء على ما تمثله إيران من “تهديد وجودى” للدولة العبرية.
التعامل الإسرائيلى مع إيران كتهديد وجودى بما يستلزمه من استنفار كل القدرات والإمكانات لمواجهته، يكشف، حجم الطموحات الإسرائيلية فى موجة “التطبيع الخليجية المستجدة”، وفى مقدمتها أن تصبح إسرائيل “دولة جوار إقليمى” فى مواجهة إيران عبر ما تأمله من تأسيس قواعد عسكرية إسرائيلية فى الخليج، وما ستحصل عليه من تسهيلات لوجستية لقواتها فى حال وجود نية لشن حرب ضد إيران، ناهيك عن فرص التغلغل الاستخباراتى الإسرائيلى فى المجتمع الإيرانى، والعمل على تحييد البيئة الاجتماعية- الشعبية الخليجية فى أى مواجهة مع إيران، إن لم يكن تحويل التعاطف الشعبى الخليجى السابق مع إيران إلى مشاعر عدائية يجرى توظيفها، عبر موجة الاندفاع الإعلامى الخليجى الراهن نحو إسرائيل، لصالح أى حرب محتملة مع إيران.
المعنى الأهم لتحول إسرائيل إلى دولة “جوار إقليمى” لإيران فى الخليج هو تحويل الخريطة الجغرافية للصراع الإسرائيلى- الإيرانى من المشرق العربى حيث فلسطين، إلى إقليم الخليج، ضمن مراهنة تقول أن نقل المواجهة مع إيران إلى الخليج سيحد كثيراً من قدرات إيران على تركيز تواجدها بالقرب من الحدود الإسرائيلية فى كل من لبنان وسوريا، إضافة إلى ما يمكن أن يؤدى إليه من إضعاف للدعم الإيرانى لمنظمات المقاومة الفلسطينية داخل فلسطين المحتلة، لأن أولوية إيران ستكون فى هذه الحالة هى الدفاع المباشر على الأراضى الإيرانية وبالتحديد الجبهة الداخلية الإيرانية.
خطورة هذه التطورات، بما تمثله من تحول إستراتيجى فى معادلات الصراع الإقليمى الخليجى أولاً ومن بعده معادلات الأمن الإقليمى العربى والشرق أوسطى ، تعنى ببساطة إعادة “هندسة الأمن الإقليمى” لصالح إسرائيل ضد إيران وضد أى طرف آخر سواء كان عربياً أو إقليمياً، تتدعم بوجود إدراك خليجى قوى بأهمية الانخراط، وبقوة، فى هذه الهندسة الجديدة، ومراهنة الرئيس ترامب على دخول دول عربية خليجية أخرى ودول عربية غير خليجية فى هذه الموجة التطبيعية تؤكد هذا الإدراك الذى كشفته بوضوح شديد “باربارا ليف” سفيرة الولايات المتحدة السابقة فى دولة الإمارات (2014 – 2018) فى ندوة بمعهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى جمعتها مؤخراً مع دورى جولد المدير السابق لوزارة الخارجية الإسرائيلية والعقل الإستراتيجى الأقرب إلى بنيامين نتنياهو وأحد مهندسى موجة التطبيع الخليجية الحالية.
فقد أشارت السفيرة ليف إلى أن دولة الإمارات أعطت أهمية مكثفة لزيارات الوفود الإسرائيلية لها “لجذب الأنظار الأمريكية للموقف الإماراتى المتفرد بالتقارب مع إسرائيل”، وألمحت إلى أن الإمارات كانت تهدف، فى ذلك الوقت، إلى “تعزيز الروابط مع الولايات المتحدة والحفاظ على دعم الحزبين الديمقراطى والجمهورى الأمريكى فى واشنطن والارتقاء بالعلاقة مع الولايات المتحدة إلى مستوى (النادى الخاص للشركاء الاستراتيجيين) مثل إسرائيل، إضافة إلى الطموح للحصول على أنظمة دفاعية أمريكية متقدمة”. لكن أهم ما ورد فى مداخلة السفيرة “ليف” كان قولها أن المنطقة تسير نحو “حقبة ما بعد أمريكا”، وأنه “يمكن اعتبار الاتفاق الإماراتى مع إسرائيل بمثابة تحوّط ضد هذا الاحتمال حيث تسعى الإمارات إلى علاقة أمنية دفاعية مع القوة الإقليمية العظمى فى المنطقة.. أى إسرائيل”.
هكذا تجد إيران نفسها فجأة فى أجواء موجات متلاطمة من التفاعلات الخطيرة. فالبيئة الخليجية لم تعد مواتية كما كانت بل تتحول، وبسرعة إلى بيئة عدائية، سيكون فى مقدورها فرض “قواعد اشتباك جديدة” فى الخليج. ناهيك عن إرباك حسابات إيران الإقليمية وقدرتها على تهديد الأمن الإسرائيلى انطلاقاً من جوارها الإقليمى لإسرائيل فى لبنان وسوريا وربما أيضاً فى العراق، فى ظل دعوة أمريكية، جاءت على لسان جايسون جرينبلات المستشار الخاص السابق للرئيس الأمريكى وأحد مهندسى مشروع “صفقة القرن”، إلى أنه “حان التركيز على إنهاء الاحتلال الإيرانى لدول عربية” فى مقال نشره على موقع شبكة “سى.إن.إن” فى معرض تحليله للتداعيات المحتملة لموجة التطبيع الخليجية الحالية مع إسرائيل. فكيف ستتصدى إيران لهذه التحولات المندفعة خصوصاً مع إعلان واشنطن مساء السبت الماضى إعادة تفعيل العقوبات الدولية الصادرة من الأمم المتحدة ضد إيران، رغم كل الرفض الدولى لهذا التوجه الأمريكى، ما يعنى أن العداء والمواجهة الأمريكية مع إيران تتجه لتجاوز كل الاعتبارات والقوانين الدولية، وأن أسقف الصراع لم تعد تحكمها تلك الاعتبارات بل المصالح العليا الأمريكية والإسرائيلية.
د. محمد السعيد إدريس
جريدة الأهرام 22/9/2020