تحتفل الجماهير العربية الناصرية بمرور (٥٠) عاما على رحيل الزعيم جمال عبدالناصر، وما اشبه اليوم بالبارحة عندما خرجت تلك الجماهير العربية بتاريخ ٩ ، ١٠ من شهر يونيو ١٩٦٧م في موجات بشرية في كل المدن المصرية وبعض الحواضر العربية مطالبة قيادتها الناصرية بالعدول عن قرار التنحي في أضخم أستفتاء تاريخي على قيادة وزعامة تبوات مكانة عالية في ذاكرة التاريخ العربي والعالمي، وقد تكرر هذا المشهد العظيم عندما رحل عبدالناصر في ٢٨ سبتمبر ١٩٧٠م فخرجت الجماهير مشيعة زعيمها الكبير بل وخرج في تلك الجنازة المليونية معظم القيادات العربية في مشهد عظيم لم ولن يتكرر في التاريخ، وليس غريبا ان يكون هذا الزعيم في صدارة المشهد السياسي العربي بعد مرور نصف قرن على رحيله رغم كل المحاولات الممنهجة للاساءة إليه منذ (50) عام حتى اليوم، فلم تفلح تلك الاجهزة والوسائل للنيل من هذا الزعيم وإسقاطه من قلوب الملايين، فهناك من يهب للدفاع عنه وهي بلاشك محبة الله التي جعلت قلوب الناس ترتبط بهذه القيادة التاريخية وكما قال الشاعر الكبير نزار قباني: تضيق قبـور الميتيــن بمــن بهـا ** وفى كل يــوم أنت فــى القبر تكبرُ .
رحل جمال عبدالناصر وهو في أوج عطائه وعنفوانه القومي العربي وذلك بعد وداع القادة العرب في مؤتمر القاهرة الاستثنائي الذي أقيم لمعالجة أحداث أيلول “الاسود” وهي المواجهات المسلحة المحتدمة بين الجيش العربي الأردني والتنظيمات الفلسطينية المسلحة، فتداعى القادة العرب الى مؤتمر القاهرة، وخلال ثلاثة أيام مضنية حافلة بالعطاء القومي انتهت بوقف تلك المواجهات ووقف نزيف الدماء العربية، فغادر القادة العرب القاهرة مطمئنين بنجاح ذلك العمل العربي المشترك، وكأن المشيئة الإلهية أرادت أن تقض برحيل هذا الزعيم الكبير وهو في أوج نشاطه القومي مختتما حياته بعمل عظيم لصالح الامة العربية متوائما مع تاريخه القيادي والنضالي الذي قضاه من أجل هذه الامة .
قد لا يتسع المقام لسرد منجزات الزعيم جمال عبدالناصر، ولكننا سنقف على محطات رئيسية تبرز تاريخ هذا الزعيم، وسنسلط الضوء ايضا على محاولات النيل منه بعد رحيله والتشويه الذي تعرض له، وكيف بقي خالدا في قلوب الجماهير، وكيف ازدادت جماهيريته على مدى نصف قرن من الزمان بعد رحيله رغم حملات التشويه التي تعرض لها، ولا شك هي محبة الله التي رسخت محبة الناس في هذا الرجل فزادت محبته في قلوب الجماهير وذلك لما قدمه في سبيل أمته .
جمال عبدالناصر يمثل مركزية قيادة للامة العربية بما حققه من منجزاته مادية ومعنوية ومدرسة فكرية مازالت مترسخه حتى اليوم، ولكن بعض من تلوثت أفكارهم وشوها الاعلام المعادي لا يود قراءة هذه التجربة الناصرية بحيادية وإنصاف وأمانة إلا ما يتوافق مع هواه وتوجهاته بهدف الاساءة الى تاريخ عبدالناصر وهذا خطأ كبير يقع فيه بعض القراء والمتابعين، وللأسف الشديد هذه الفئة تلبست بشوائب التشويه والاحقاد التي بثها أعداء عبدالناصر من قوى الاستعمار التي أجهضت طموحاتها في عهد عبدالناصر وكذلك قوى الرجعية وبعض الفئات التي فقدت مصالحها فحاولت الطعن والاساءة لتجربة الزعيم جمال عبدالناصر، ومازال البعض يقوم بنفس الدور في تشويه وقلب الحقائق وتحويل المنجزات الى أخطاء وهذا ظلم كبير لزعيم اراد أن يضع العرب في صدارة المشهد السياسي الدولي فتحقق للعرب الصمود والعزة والكرامة في العلاقات الدولية في النظام الدولي القائم في ذلك التاريخ رغم حداثة الدولة العربية، لكن بقي ناصر خالدا شامخا في قلوب الملايين ومازالت صوره مرفوعة في كل المناسبات القومية العربية ومازال حديث الاعلام وشاغل الناس حتى اليوم، فهو حاضر رغم الغياب الذي أكمل نصف قرن من الزمان، وليس ذلك مستغربا على رجل كان يمثل المشروع العروبي والقيادة العربية وزعيم كرس مدرسة ناصرية تنهل من مبادئه مع مرور الزمن، لذا فقد بكاه العالم وغادر بعد حياة حافلة بالعطاء والاخلاص لوطنه وأمته، ورثاه حتى من كانوا بالسجون مثل الشيخ التلمساني والشاعر أحمد فؤاد نجم وغيرهم الكثيرين الذين شعروا بفقدان المشروع العربي برحيله، كما رثاه الشيخ الشعراوي بعد سنوات من الرحيل بعدما رآه في المنام فذهب الى ضريحه معتذرا ودعا له وهذه حقائق موثقة بالطبع، وهكذا دائما تقييم المنصفين المفكرين ممن يقرأؤن التاريخ بتمعن وحيادية فقد أدركوا تلك المعاني والدلالات في قيمة هذا الزعيم، وينبغي على العرب اليوم معرفة قيمة هذا الزعيم في هذا الوقت الذي فقد فيه العرب تأثيرهم وغابت القيادة العربية المحورية وفقدت مشاريع الوحدة والتضامن والتحرر وسيطر الاستعمار من جديد على مقدرات الامة وثرواتها، وبرحيل عبدالناصر فقدت الامة السياج المنيع الضامن للامن القومي العربي والسد العالي أمام قوى الاستعمار .
جمال عبدالناصر كان يمثل القيادة العربية المحورية التي جمعت الأمة على المستوى الرسمي والشعبي فكانت وحدة ضمنية انطلق منها العرب بقيادة واحدة ومواقف موحدة تجاه الاحداث والقضايا الدولية، فما حققه عبدالناصر من منجزات مازالت ماثلة حتى اليوم تعبر عن عظمة تاريخ هذا الزعيم رغم قصر مدة حكمة، فخلال (١٨) عام تحققت منجزات أكبر من قياسات الزمن، فتم بناء السد العالي الذي يعتبر أضخم مشروع دولي في ذلك الوقت رغم المعوقات والعراقيل التي وضعت أمامه، ولكن إرادة الزعيم عبدالناصر كانت أقوى فتحقق هذا المشروع العملاق، كذلك قناة السويس التي يتقاسم ريعها قوى الاستعمار أعادها عبدالناصر الى ملكية الدولة المصرية فأممها رغم أنف تلك القوى الدولية فنشبت ما يسمى حرب السويس أو العدوان الثلاثي حتى تحقق النصر في نهاية المطاف لصالح مصر وعادت القناة الى ملكية هذا البلد العظيم، كذلك أسهم عبدالناصر في انشاء منظمة عدم الانحياز في وقت مبكر من حكمه فكانت تمثل الحياد الايجابي لدول العالم الثالث فجمع المؤتمر عددا كبيرا من دول العالم الصاعدة والنامية وشكلت ثقلا دوليا على مساحة دولية شاسعة، فكان لمصر عبدالناصر دورا كبيرا محوريا على خارطة التأثير العالمي، بل أن عبدالناصر أثناء تحركه لالقاء كلمته بالامم المتحدة في سبتمبر ١٩٦٠م وقفت له جميع الوفود الدولية مع التصفيق مما يشعرك كعربي بالفخر وعظمة العرب بوجود هذا الزعيم، وعندما انسحب عبدالناصر من الجلسة أثناء إلقاء رئيس وفد الكيان الصهيوني كلمته انسحب خلفه عدد كبير من الوفود الدولية فكان تأثير ونفوذ عبدالناصر يشمل اسيا وافريقيا وعدد من دول امريكا اللاتينية وبعض دول العالم الحر، حتى أن الرئيس الامريكي نيكسون قال: أن العالم تتحكم به ثلاث قوى الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة ومصر عبدالناصر، نعم لقد كانت القاهرة محورا تحرك السياسة الدولية، هكذا هي الزعامة والقيادة التي استقطبها عبدالناصر فوظفها في صالح قضايا الامة العربية من المحيط الى الخليج، كذلك حقق عبدالناصر الكثير من المنجزات على المستوى الداخلي المصري فبنى برج القاهرة وتم تطوير الازهر الشريف الذي كان يمثل قبلة لدول العالم حيث يستقطب عددا كبيرا من الدارسين للدراسة المكفولة بكل التكاليف المعيشية والاقامة والدراسة بالاضافة الى مصروفا نثريا لكل الطلاب، كذلك وسع عبدالناصر مجانية التعليم والصحة ودعم السلع الغذائية الاساسية للفقراء ومتوسطي الدخل وتوسعت المنشآت التعليمية والصحية والمساجد وبرز في تلك المرحلة كبار الرموز في العلوم والفنون والآداب وكبار القراء في تاريخ مصر والوطن العربي، كذلك وقع عبدالناصر اتفاقية الجلاء مع الانجليز وسن قانون الاصلاح الزراعي ودعم الفلاحين والعمال وظهر الاهتمام بالزراعة والصناعة فأقام نهضة صناعية مصرية عظيمة بالاعتماد على الذات، وهذا يؤكده تقرير الامم المتحدة للتنمية عام ١٩٦٨م قبل رحيله حول مستوى التقدم والتنمية في مصر رغم الظروف ورغم الحرب ورغم المواجهة مع قوى الاستعمار، كذلك أمم عبدالناصر البنوك والمنشآت العامة وأعاد موارد وثروات الدولة المصرية الى أبناءها، والاهم من كل ذلك هو مواجهة قوى الاستعمار ودعم التحرر العربي والافريقي فأصبحت افريقيا تحت نفوذ الزعيم عبدالناصر حيث لم يتمكن كيان الاحتلال الصهيوني من اختراق تلك القارة بسبب وجود عبدالناصر، وبطبيعة الحال تكرست ثقافة المقاومة بين أبناء الامة العربية، وهكذا عندما يمتلك القادة والزعماء الارادة والعزيمة والاصرار وهكذا هو تاريخ العظماء في العالم .
لقد حققت للتجربة الناصرية نجاحات عظيمة على صعيد الحرية والاشتراكية والوحدة فتمت الوحدة العربية مع سوريا في فبراير ١٩٥٨م رغم انفضاضها لاحقا في سبتمبر ١٩٦١م بسبب بعض الاخطاء التي حدثت، ولكن الوحدة الحقيقية التي حققها جمال عبدالناصر بالتحام الجماهير حول قيادته وحفاظ النظام الرسمي على موقف موحد تجاه الاحداث والمواقف التي تتعلق بالمنطقة العربية، وأصبح النظام الرسمي العربي مرتبطا بالجماهير العربية، وقد أدركت قوى الاستعمار حجم تأثير عبدالناصر على الجماهير العربية فأنصب ذلك في خدمة القضايا العربية وعندما ترتبط القيادة بالجماهير العربية تتحقق معادلة الحكم الحقيقية، وتثبت حادثة سفينة كليوباترا مدى تأثير القيادة الناصرية في الجماهير وذلك عندما توقف عمال الشحن في ميناء نيويورك عن تفريغ سفينة كليوباترا من القطن وشحنها بالقمح بهدف الضغط على مصر ومواقفها العروبية وكيف استخدم عبدالناصر ذراعه الاعلامية إذاعة صوت العرب من خلال الخطاب الذي وجهه لعمال الشحن والتفريغ في الموانئ العربية فتوقف كل عمال الشحن والتفريغ في الموانئ العربية عن شحن وتفريغ السفن الامريكية مما أدى بالرئيس الامريكي أن يأمر بتفريغ وشحن سفينة كليوباترا فتحققت إرادة عبدالناصر وهذه الحادثة كرست معنى القيادة والتفاف الجماهير حولها، لقد أرهق عبدالناصر قوى الاستعمار في تحقيق أجندتها القائمة على خدمة مصالح كيان الاحتلال الصهيوني، وقد استثمر عبدالناصر محورية القيادة في صالح قضايا الامة، كما أسهم بقوة في دعم ثورة الجزائر حتى تحقق الاستقلال، كذلك كان للجمهورية العربية المتحدة موقفا عظيما في توجيه الانذار لقوى الاستعمار من مغبة التدخل في شؤون العراق أعقاب ثورة تموز ١٩٥٨م بالعراق وسافر بعدها عبدالناصر الى الاتحاد السوفيتي لاطلاع القيادة السوفيتية على ما حدث بالعراق لتوظيف اىدعم والمساندة من قبل إحدى القوتين العظميين في ذلك الوقت، وكان لعبدالناصر دورا عظيما في ايقاف تهديدات الرئيس العراقي عبدالكريم قاسم لاحقا في بداية الستينيات ضد الكويت مما أجبر الرئيس عبدالكريم قاسم وقف تهديداته على دولة الكويت، لذا بقي هذا الزعيم خالدا في قلوب الجماهير العربية.
الرئيس جمال عبدالناصر بالطبع ليس نبيا مرسلا فقد أصاب وأخطأ وهكذا حال كل التجارب البشرية، فقد خسر العرب حرب ١٩٦٧م مع اسرائيل بسبب تقديرات غير موفقة من القيادة العسكرية المصرية ولكن عبدالناصر أعلن تحمل كامل المسئوليه وأعلن تنحيه عن السلطة في وضع لا يحسد عليه أي قائد في ذلك الظرف العصيب، إلا أن خروج الجماهير في مسيرات يومي ١٠،٩ يونيو ١٩٦٧م مطالبة ببقاء قائدها في مشهد يمثل أضخم استفتاء لا يتكرر في التاريخ أجبر الزعيم عبدالناصر تلبية المطالب والانصياع الى صوت الجماهير للاستمرار في قيادة مصر والامة العربية، وهنا فقد حقق العرب نصر سياسي مهم رغم الهزيمة العسكرية واستكمل ذلك من خلال مؤتمر الخرطوم التي أعلنت لاءآته الثلاث “لا صلح لا تفاوض لا اعتراف” وبالندتالي فقد فشل العدو إلحاق هزيمة سياسية معنوية بالعرب، ليبدأ بعدها عبدالناصر الاعداد للمعركة القادمة معركة النصر، فعمل على تحديث الجيش المصري وتغيير قياداته، وكان لحرب الاستنزاف التي استمرت ثلاث سنوات دور كبير في استنزاف قدرات العدو الذي حاول أكثر من (5) مرات التفاوض حول عقد اتفاقية تنهي حالة الحرب مع مصر مقابل الانسحاب الكامل من سيناء إلا أن عبدالناصر كان يرفض ذلك معلنا أن السلام لن يتحقق إلا بالانسحاب الكامل من الاراضي العربية المحتلة، وما أخذ بالقوة لا يسترد الا بالقوة فعمل على الاعداد للحرب الفاصلة التي تحقق فيها العبور في ملحمة عظيمة وتحقق النصر في اكتوبر ١٩٧٣م بعد رحيل عبدالناصر وذلك بفضل قيادته وجهده وتجهيزه واعداده الكامل لتلك المعركة وشحذ مواقف الامة العربية خلف القوات على جبهات القتال مما حقق موقف عربي جماعي موحد بموازاة الجهود العسكرية وهي من أهم عناصر النصر .
اليوم تجد بعض العرب ممن تلبست عقولهم بالتشويه يحاولون الاساءة لهذا الزعيم متناسين حجم تلك المنجزات المعنوية والمادية لكن من يسيء لهذا الزعيم عليه مراجعة نفسه والتأمل في حالة الامة العربية من بعده، نعم الأمة اليوم تحتاج الى قيادة محورية تقود الامة وتكرس مبادئ الزعيم عبدالناصر، فرحم الله جمال عبدالناصر وأسكنه فسيح جناته .
خميس بن عبيد القطيطي