تمتلك الذاكرة الحضارية للتعليم في عمان أرصدة ضخمة من الثراء الفكري والمعرفي والمفاهيمي والمفردات والتجارب والخبرات المتعلقة بالتعليم، فالمبدأ الذي انطلقت منه عمان على يد المغفور له بإذن الله تعالى حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد طيب الله ثراه والخطب والكلمات السامية التي ازدانت بالكثير من التأصيل المفاهيمي والفكري المرتبطة بالتعليم المنتج وجودة التعليم والابتكار وتكافؤ الفرص واستدامة التعليم والاستثمار في التعليم ودور القطاع الخاص وانتاجية التعليم وغيرها كثي، جاءت الرؤية السامية لحضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم حفظه الله ورعاه لتضيف إليها دعامات القوة في استمرار للنهج وتأصيل للمنهج وتعميق لمسارات التكامل والتناغم التي ينبغي أن يصنعها التعليم في بناء عمان المستقبل: الدولة والانسان، وعبر ما ازدان به الخطاب السامي في الثالث والعشرين من فبراير من درر المعاني وصفو البيان وعمق الكلمة، ” وإن الاهتمام بقطاع التعليم بمختلف أنواعه ومستوياته وتوفير البيئة الداعمة والمحفزة للبحث العلمي والابتكار سوف يكون في سلم أولوياتنا الوطنية ، وسنمده بكافة أسباب التمكين باعتباره الأساس الذي من خلاله سيتمكن أبناؤنا من الإسهام في بناء متطلبات المرحلة المقبلة”؛ مرتكزات تضع التعليم اليوم أمام مسؤولية توجيه بوصلة اهتمامه وأدواته إلى إنتاج عمان المستقبل، ولتصنع جهود مراجعة التعليم وإصلاحه مرحلة انتاج القوة وبناء الإرادة ونهضة الوعي وتأصيل الأخلاق وتعزيز الهوية والمواطنة، فكان حديث جلالته عن التعليم والشباب والبحث العلمي والابتكار والتقنية الحديثة، موجهات تقرأ في النسق التعليمي مدخلات التغيير القادم التي يجب أن يشهدها قطاع التعليم بكل مستوياته في سياساته وبرامجه وخططه، وفي هياكله وبنيته التشريعية والتنظيمية ثم في محتواه وأنشطته ومناهجه وأساليبه واتجاهه إلى توظيف التقنية من خلال التعليم عن بعد وإنتاج المحتوى الرقمي، وانتهاء بالمعلم والطالب الذي تريده عمان لبلوغ غايتها وتحقيق أهدافها وإنجاز ما عهدته في رؤيتها 2040 من شغف الإنجاز ورغبة صناعة الفارق وتحقيق تقدم نوعي يسع الجميع ويصنع بين سطوره وأدواته حياة مطمئنة للإنسان ونهضة متجددة لعمان.
لذلك كان الحديث عن اصلاح التعليم الحلقة الأقوى التي يجب أن تدور حولها مرتكزات العمل الوطني القادمة، وامتلاك التعليم ممكنات التغيير وصناعة التحول وبناء منصات الأداء بحاجة إلى تغيير في فلسفته وألية عمله وإعادة تنظيمه وترتيبه وتأكيد وضوح تفاصليه ومجالات عمله، والغايات والأهداف والمعايير والمؤشرات التي يجب أن تضعها كل مرحلة دراسية في طريقها لإنتاج القوة وصناعة إنجاز يفخر به كل مواطن عماني، وإذا كان التحول والعطاء والإنتاج يولد من رحم الأزمات، فإن ما يحصل في عالم اليوم من أحداث ومواقف وظروف ومتغيرات وجوائح وانتكاسات واخفاقات واجهت التعليم وأغلقت مؤسساته وأوقفت تنفيذ برامجه، كفيلة بأن تضعه أمام مسؤولية إحداث التغيير، ووجوب تقديم رؤية جديدة تعكس رؤيته للحياة وبدائله للتطوير، والبحث في كنه الواقع ومتغيراته ورسم معالم المستقبل، بما يتيح نهضة مستمرة في مجالات الاقتصاد والمال وريادة الأعمال ورأس المال البشري وكل قطاعات التنمية الاجتماعية والثقافية وغيرها، فإنتاج مورد بشري كفؤ معد اعدادا نوعيا، يمتلك المهارات والاستعدادات والجاهزية والقوة الفكرية والمعرفية والمهارية، كما يمتلك حس المسؤولية واحترام المسؤوليات وتوظيف الفرص وإدارة المشاريع وإنتاج القوة في واقعه الحياتي، لا تتحقق إلا بجودة التعليم وترسيخ هذه الممكنات في حياة الأجيال وثقافتهم، وتأطيرها في فلسفة الحياة وأساليب العيش وأنماط العمل، وتحقق ذلك ما زال في ظل ما أفصح عنه كورونا (كوفيد19) بحاجة إلى دور أعمق للتعليم يتجاوز الشكليات ويدخل للعمق ويرسم للإنسان معالم التحول التي يبدأ فيها من ذاته بما تثيره فيه أساليب التعليم من هاجس الشعور وتنمّيه فيه من شغف البحث وقبول التحدي، ويطلق فيه عنان التأمل والتفكير الواسع، ويصنع فيه إرادة النجاح والمنافسة، ويوقظ ضميره في إنسانية المبدأ وفقه المسؤولية وصدق الضمير، وهو ما يعني أن على التعليم أن يعيد توجيه مساره وضبط أدواته وتصحيح أهدافه وتحديث برامجه وتشخيص واقعه وتعظيم موارده، والتثمير في قدراته وامكانياته بالشكل الذي يضمن تكيفه مع معطيات الواقع الوطني ومستجداته.
وعليه فإن ما حملته رؤية القيادة الحكيمة لجلالة السلطان المعظم من فكر التطوير وإعادة هيكلة الجهاز الإداري للدولة، تضع التعليم بمثابة بوابة الدخول للمستقبل، والطريق الذي يفتح الآفاق لوضع الهيكلة الإداري للدولة محل التطبيق الفعلي والتجسيد العملي لها في الواقع الحياتي في بيئة العمل وثقافة المسؤول وسلوك الموظف، وانتاجية الدولة في منظوماتها الاستثمارية والاقتصادية والسياحية والتراثية، إذ هو من يستطيع أن يقدم حصانه فعلية تمنع أي انحراف عن المسار أو تغيير لخارطة الطريق، وتسهم في بناء موجهات الضبطية والنزاهة والتقنين والإصلاح وهندسة التغيير، إنها مرحلة انتاج معادلة القوة التي يجب أن يتجه إليها التعليم، وحاجته اليوم إلى اصلاح جذري حقيقي نابع من معطيات المرحلة والدور الاستراتيجي المعهود على التعليم في ترقية الابتكار والنقد والتحليل وصناعة الالهام وإدارة الموهبة وتوليد التعليم النابع من وحي الأزمات والظروف ، وتوفير مساحات التشريع والضبطية لمدخلات التعليم وعملياته ورسم مسارات واقعية لنواتجه بما يضمن تحقق تحول فعلي في الواقع الاجتماعي، فإن المتتبع للقضايا المجتمعية والتحديات التي تواجه التنمية الوطنية فيما يتعلق بالوظائف والتشغيل والباحثين عن عمل وسوق العمل الوطني وقضايا الأمن الاجتماعي والجرائم والمخدرات والمشكلات الأسرية والاعتماد على الاخرين واهتزاز الثقة بالنفس وضعف التثمير في المورد البشري والمفاهيم المغلوطة والممارسات المغايرة للمأمول كالمحسوبية والاختلاس وغيرها، يجد بأنها إما نتاج تعليم غير قادر على العيش في الظروف الصعبة، أو بسبب ضعف مساحة التمكين والصلاحيات الممنوحة له، أو استمرارية النظرة الضيقة للتعليم التي ما زالت تقرأ فيها هاجس الاستهلاك والاستنزاف للموارد ، أو اهتزاز الثقة في مخرجاته ومنتجه- دون مبرر- والاتجاه إلى الايدي الوافدة، والاجندة الشخصية والاجتهادات الذاتية والأفكار الوحدوية وشخصنة القرار التعليمي الذي يتباين مع المأمول ويصطدم بجدار التطبيق، كل ذلك وغيره بحاجة إلى ضبطه وإعادة قراءته وفق الرؤية السامية ” وسنهتم بدراسة آليات صنع القرار الحكومي بهدف تطويرها بما يخدم المصلحة الوطنية العليا ” ويبقى أن نقرأ في هذا الرصيد الوطني حول التعليم مدخلا لإصلاح التعليم في عُمان وإعادة رسم ملامحه القادمة ليتكيف مع إنتاج القوة الاقتصادية والبشرية والمهنية والبحثية والعلمية التي تريدها عُمان.
د. رجب بن علي العويسي- خبير الدراسات الاجتماعية والتعليمية في مجلس الدولة