لقد اطلعت على مقال جميل عن بعض سيرة السيد طارق بن تيمور في حقبة ما قبل السبعين وبعده، ودوره الوطني والداعم في أحداث عُمان المختلفة، وقد كان محور المقال وعنوانه هو عن الملكية الدستورية وتبني السيد طارق له، وظهر موقف السيد طارق الإصلاحي المعارض لواقع عُمان في الخمسينات وبعد استتباب الأمر لعمان السلطنة على عُمان الإمامة بعد حرب الجبل سنة ١٩٥٧ م، ليصطدم بمعوقات شديدة بدءا بأخيه وانتهاء ببريطانيا وتدخلاتها، ليخرج من عُمان عام ١٩٦٢ م ويبدأ معارضته المعلنة من ألمانيا سنة ١٩٦٦، وليعلن عن فكرة الملكية الدستورية سنة ١٩٦٧م، وأنه النظام الذي يتبناه لإصلاح عُمان.
ومن باب التدافع الحسن والتعاضد، فقد أخذني هذا المقال بالأحداث التي أوردها والحقيقة التي عايشناها مع السلطان قابوس إلى التوقف على بعض النقاط وبالأخص على التقديم لسبب استقالة السيد طارق من رئاسة وزراء حكومة السلطان قابوس وقوله:” وبعد عدة أحداث مهمة، عانى منها السيد طارق بسبب مستوى التدخل البريطاني في الشأن الداخلي، وأدت هذه التدخلات الصريحة لإجهاض مشروع الملكية الدستورية في عُمان”، والتي سنرى من خلال ما سنسرده عدم دقتها، أو بالأحرى عدم صحتها كنتيجة خلص إليها الكاتب أو نقلت له من غيره، لأنها نزعت إرادة السلطان قابوس الخاصة المحتملة وموقفه من الملكية الدستورية قبولا ورفضا كرجل دولة مستقل، وجعل الأمر كله لبريطانيا، استصحابا فيما يظهر لحقبة السلطان سعيد، التي ذكرها الكاتب ونص عليها من قبل، والتي قضى بها الحال، أن استيأس السيد طارق من أخيه السلطان سعيد وخَلص نجيا مع نفسه ليغادر عُمان سنة ١٩٦٢م لأبو ظبي ثم لألمانيا سنة ١٩٦٦م.
إلا أنه قبل ذلك يجب ملاحظة أنني لم أستطع إيجاد العلاقة لمقدمة التواصل الاجتماعي وخبرها عن كشف السلطان هيثم لأمواله وعائلته لوزارة المالية بالملكية الدستورية التي كان يدعو لها السيد طارق والد السلطان هيثم، والتي استهل بها الكاتب مقاله وجعلها بوابة ومدخلا لاستحضار السيد طارق ومطالبته بالملكية الدستورية، فالكشف عن ذلك متى كان فهو من الشفافية والقيادة التي يتقبلها كل نظام، وليس هو أصلا أو مرجعا للملكية الدستورية دون غيرها، كما -وفي مسألة أخرى- لم يُعهَد تنصيبٌ رسميٌّ وتسميةٌ لولي العهد، سواء للسيد طارق في حياة أخيه السلطان سعيد أو السلطان قابوس قبل توليه ومن يوم مولده كما نص عليه صاحب المقال بقوله: ” سُمِّيَ طارق وليا للعهد لكن فُقِدَ عندما وُلِدَ السلطان قابوس ١٩٤٠م”، وهو تكلف لا يستقيم، والحق أنه ما ذُكِرَتْ ولايةُ عهد للسلطان قابوس في رسالة أو خطاب (لا سيما تلك بين الأسرة والأصدقاء) فقد كان فقط في نطاق الاستخدام الاجتماعي، الذي يستوي فيه العام والخاص من الناس، وليس في سياق رسمي معروف، والخطابات الرسمية والإعلامية قبل السبعين مبسوطة بما يعزز هذا المعنى وهذه النتيجة.
الآن سأتناول المتبقي من قراءتي حول النقطة الرئيسة (سبب استقالة السيد طارق) على شكل نقاط ليسهل تتبعها وخلوص النتيجة منها، وهي كما يلي:
-أولا السيد طارق كما السلطان قابوس كما كان باقي شعب عُمان الواعي أدرك الحاجة الملحة لتغيير تعاطي السلطان سعيد مع وضع عمان الداخلي، وعلاقاتها الخارجية ومكانتها بين الدول..
- ولكون العالم يومئذ خيرا من عالم اليوم من حيث التجربة القريبة والقائمة ونتائجها من باب الديمقراطية والملكيات الدستورية، والثورات المولدة لها كالثورة الصناعية في وجه حقبة الظلام التي عانت منه أوروبا بحكم سيطرة الكنيسة، ولنشوء دول مختلفة اعتمدت أسس الملكية الدستورية في العالم الغربي، لا سيما بريطانيا ودول الكومونولث عموما، فإن تبنيها لتكون بديلا للوضع الجامد لعمان من قبل مصلح كالسيد طارق كان أمرًا مصاغا ومتوقعا، إلا أنها تبقى خيارا مستنسخا من ألفه إلى يائه، اعتمدها السيد طارق ساعتها لنتائجها الموجبة وتجربتها المعاشة في دولها.
- ولكون تغيير وضع عُمان هو غاية جميع (الفرقاء)، فقد نجح التغيير وكان السلطان قابوس خليفة لوالده فيه، ورضي به الجميع لصدق ما قام عليه من دعوة إصلاح وعمل وحب لشعبه ولوطنه عُمان
- لقد باتت فرصة إقامة نظام الملكية الدستورية أقرب من ذي قبل بتولي السلطان قابوس الحكم، وربما من أول مؤشراتها المشجعة عند السيد طارق هو تعيينه رئيسا للوزراء ووزيرا للخارجية.
- إلا أن السلطان قابوس فيما يظهر من السياق التاريخي والزمني وسيرة عمه السيد طارق معه التي أوردها الكاتب كان له رأيه الخاص في الملكية الدستورية، وتبنيها بشكلها الغربي وتطبيقها بحذافيرها على عُمان كمبدأ، فضلا أن ذلك لم يكن أولوية ساعتها، ولم يكن واقع عُمان العلمي والصحي والثقافي وحتى الإداري يتحمل ذلكم الانتقال، وربما لغير ذلك من أسباب أحجم بسببها السلطان قابوس عن التفاعل مع دعوة الملكية الدستورية بصورتها التي أرادها عمه السيد طارق، مما قد يكون شَكَّل نوعا من المفاجأة له، وترجم ردة فعله عليها باستقالته من رئاسة الوزراء بعد أقل من سنة ونصف فقط من النهضة (ديسمبر ١٩٧١م) وتركه عُمان.
- ولكون الأمر اختلافا على النظام أو الدستور الذي ينبغي أن يكون لعمان وليس على ضرورة وجوده، ولأن الأمر كان داخليا خاصا وليس بريطانِيًّا بالمجمل، فقد عاد السيد طارق سنة ١٩٧٥ م لعمان وكان مستشارا لابن أخيه، وربما احتاج السلطان قابوس تلك المدة لإقناع عمه بوجهة نظره وتحفظه على تطبيق الملكية الدستورية على عُمان بالشكل الذي عليه الدول الغربية، معزِّزا ذلكم الإقناع بتجربة الخمس سنوات الماضية المليئة بالإصلاح والصدق فيه كانتصاره واحتوائه لمعارضيه في جبهة الجنوب وعفوه وتكريمه لهم، وأنه متجه لإقامة دستور يناسب عُمان، مستوحيا من الأنظمة تاريخا وحاضرا، ومن تجربة عُمان خاصة وتراثها وأنظمة حكمها المختلفة ما يقوي هذا الدستور العماني الخاص ويعززه بين غيره من الأنظمة، ودليلنا على هذا المتجه هو عودة السيد طارق وقبوله ليكون مستشارا لابن أخيه وركونه لحكمة السلطان قابوس في ذلك والتي قد يكون اطلع عليها بما شرحه له، وعزز ذلكم بزواجه ابنته سنة ١٩٧٦م، ليكون عما وأبًا ومستشارا وصهرا.
- قام السلطان قابوس بعدها ببناء الدولة، وكان عمه السيد طارق شاهدا على ذلك حتى وفاته سنة ١٩٨١م، فقد رأى السيد طارق تفريغ السلطان قابوس للمناصب القيادية من بريطانيا وإحلال العمانيين محل البريطانيين، في المراسم السلطانية، والمكتب السلطاني والجيش وغيرها، وهو ما يدل من جديد على عدم دقة شهادة الكاتب لسبب استقالة السيد طارق، بل كانت تلكم الاستقالة لما ذكرنا، من موقف السلطان قابوس الشخصي ورأيه المبني على الاطلاع والنعمة التي وهبها الله له والذكاء الفطري والحكمة التي يتحلى بها، مما جعله يتحفظ على إقامة الملكية الدستورية في عُمان تقليدا للآخرين، والتريث والعمل على إقامة دستور منافس وخاص بعمان، ولولا تلكم الحقيقة ما كان السيد طارق ليعود، وما كان ليهدأ سره، ويموتَ بسلام في وطنه عُمان
- لم يكن السيد طارق كما عبر عنه المقال ” بعيدا عن الأنظار” بمعنى أنه بعيد عن الشراكة في القرارت والرأي، بل الحق أنه لم يكن بعيدا بل كان قريبا من خلال ابن أخيه السلطان قابوس نفسه، ومن خلال أولاده في المواقع المختلفة من الخط الأمامي، العسكري والمدني للدولة، لذلك انتفت الحاجة ليكون السيد طارق في نطاق الأنظار، خلاف حقبة أخيه السلطان سعيد لانتفاء أسبابها، بالإضافة لحكم تقدم العمر على الإنسان طبيعةً.
- قام السلطان قابوس بعدها بالوفاء لعمه السيد طارق ولشعبه عموما بإقامة دستور خاص ومناسب للبلد، وقد أخذ عليه ذلكم التحضير ستة وعشرين عاما، وهذا متطلب الحكمة، ليعلن عنه في ١٩٩٦ م، وليتعرض الدستور للتجربة الحقيقة والأكبر في عام ٢٠٢٠ م، بموت السلطان قابوس وتنصيب خليفته السلطان هيثم قبل حتى مواراة السلطان قابوس الثرى، في حدث تاريخي جليل، أقر بعلو الدستور العماني الخاص والمبتكر من الماضي والحاضر على غيره مِن الدساتير والأنظمة الأخرى على مستوى العالم، وليعزز ذلكم الثقة لدى الاقتصاديين والساسة وغيرهم بعمان.
هذا ما وددت تصحيحه والاستدلال عليه، بالمقارنات وقراءة الواقع، وعمان بقيادة السلطان هيثم -وصية السلطان قابوس، وخليفته- ذاهبة بنهضتها المتجددة وسلطانها العظيم نحو العلى غير متراجعة، امتدادا لرغبة العمانيين كافة قبل السبعين وبعدها، ووفاء للسلطان قابوس والسيد طارق ولغيرهما من رجال عُمان الشرفاء في مسيرتهم المظفرة التي تكاتفوا على قيام صروحها، مستفيدين من التجربة العريقة التي عاشتها عُمان في الخمسين سنة الماضية، واعين جِدَّ الوعي بعدم مناسبة أطروحات ما قبل السبعين بعد ثبات تجربة عمان ذاتها، بعيدا عن تقليد الآخرين في أنظمتهم الحاكمة، كانت ملكية دستورية أو غيرها، وقد ثبت تقدم الدستور والمشرِّع العماني عليها جميعا بالتجربة، والتي لا شك هي خير برهان.
حفظ الله عُمان وسدد قائدها السلطان المعظم للمضي قدما بهذا الوطن نحو العالي، لتنعم عُمان بالرخاء أبدا، أحقابا وأعقابا متوالية، حتى يرث الله الأرض ومن عليها، إنه سميع عليم.
عبدالحميد بن حميد بن عبدالله الجامعي
السبت
٢٢ ربيع الثاني ١٤٤٣ هـ
٢٧ نوفمبر ٢٠٢١ م