لستُ في سبلة الصافية فأبي لم يعد يتكئ على الدريشة المفتوحة على شجر الشاموم ، ودلال سبلة أبي انكفأت على أمسها والمواقد شربت حد الثمالات.
أنا على بعد أشبار من ارتطام سمائل بالجبل جهة الغرب ، أرقب الشمس وهي تسحب صفرتها من فنجان “الكاراميل ماكياتو” في استراحة الفيحاء.
تناولني النادلة الآسيوية خلطتها الساخنة من القهوة فلا أملك زجرها كما يفعل أبي إذا “شاخ” الهيل على البنِّ في “تعشية” الدلة ، أو إذا تعجَّل “المغنِّم” في صبِّها قبل أن “تصلف” ، أو هربَ من القهوة لونها القرمزي فتغيَّر مذاقها الأقرب إلى المرارة.
كان علي أن أكتفي بشكر النادلة وهي تضع منديلا ورقيا تحت الكوب ، فكيف لي أن أبدي رأيا في “السبانش لاتيه” وأنا احتسيه في استراحة الفيحاء مجاراة لأناقة الطاولات.
وعليَّ أن أعترف أنني لست في موقع المتذوق ل”الروز فرابتشينو” فأنا أتجرعه إرضاء لحمرة المغيب التي تتسحب من صفحات الفناجين.
هذه استراحة الفيحاء إذن وقد قرأت خبر افتتاحها في نوفمبر من عام ٢٠١٩ كالحلم.
ووقفت على تفاصيلها من الموقع في “البوكنج دوت كوم” فلم أصدق أنها بسمائل.
واستوقفتني صورة المسبح الفيروزي للاستراحة وقد غطس ظل جبل قرن الجارية في زرقة الماء لينكأ جرح الأسطورة النائمة في الحكايا السمائلية عن جارية استدرجت قاتل أبيها إلى قمة الجبل لأخذ الثأر ، وبعد أن أنهت مهمتها نزلت مرفوعة الرأس باتجاه قرية “هيل” المجاورة لتموت في كبرياء.
هذه استراحة الفيحاء إذن وهي تنقلنا من استفتاح الصباحات في السبلات على صليل “السفن والموقعة” ورائحة البن المحروق وندماء الشأن السمائلي ، إلى مشاهد لا نراها إلا في المنتجعات التي تستقتل الوكالات السياحية لإغوائنا بتجشم عناء السفر إليها ، فهاهي قطعة من الحلم تحت ظلال نخيلنا وعلى بعد أشبار من نشيج السمدي الخالد دون أن نشد الرحال.
أسائل الشيخ إبراهيم الكندي المسؤول عن الاستراحة عمّا إذا كانت سمائل تأتي إلى هنا وتترك في السبلات “السفيف” و”قلاد السرود” ودلال “البرام” ومواقد “العسبق” لتشرب قهوة “دلجونا” الكورية ، أو لتتغدى بمعكرونة “الفريدو مع الدجاج” و”سباجتي بولونيز” فأدهشني حديثه عن الإقبال الكبير على المكان رغم هجمة كورونا ، وعن إشغال الاستراحة الذي اعتمد في البداية على المواطنين إلى أن اتسع ليشمل المقيمين ، إلى حانب حجوزات لأفواج سياحية من الخارج كالأوروبيين قبل أن يهجم كورونا فيتوقف كل شيئ ، وعن وجود قاعة للاحتفالات والأعراس التي ازدحمت بالمواعيد لولا كورونا الذي أخلفْ من أن يجاور الصهيل زغاريد الجارية المتحدرة من قمة الجبل وقد تحنَّت بدماء خصمها حتى الموت.
أصعد إحدى غرف الاستراحة صحبة إبنيَّ فيصل ومازن فنطل من الشرفة على قرن الجارية فتتراءى الأسطورة التي سعت فرقة الدَّن السمائلية على مَسْرَحتها قبل سنوات لتحصد الجوائز.
أخذني المشهد الآسر إلى أبي وأنا أطل على الحديقة بعد أن جنَّ الليل ورأيت قمر التاسع من صفر يسكب ضياءه على حوض السباحة كعسجد في لجين كما يقول أبو نواس بينما أعمدة إنارة الحديقة تستنهض العشب النائم ، فلا بد من أن يكون مثل هذا المشهد محفزاً لأبي ليضاعف ألبومه الشعري السمائلي.
كما استحضرتُ أمير البيان الذي لا بد وأن يكون المشهد ملهما لسمائليات أخرى ، وكذا الحال مع الشاعر الكبير هلال السيابي والشيخ حميد الجامعي وحبراس.
أشفقت على كتيبي “مصابيح الفيحاء” الذي بدأ خافتاً وأنا في قيامة المصابيح ، من القمر الذي أمطر الحديقة فاستعدت شجيراتها لتراقص الأضواء إلى جبل قرن الجارية الذي ما يزال في كرٍّ وفرٍّ بين الجارية الثائرة والقاتل الذي تلاحقه أنفاسها لتجهز عليه.
لقد بدا الكتيب ناقصا بدون جبل الجارية ، ولكم تمنيت لو لم أتسرع في طباعته لأفسح حيزا لليل هنا ، ولأكتب نصا يستحضر مكانا تغيب فيه الشمس
لقد استأثر كتيبي بالشرق السمائلي فأهمل الغرب مثل “هيل وقرن الجارية والراسيات” والقرى المجاورة.
ومن محاسن الصدف أن ألتقي سعادة السيد سليمان بن حمود البوسعيدي في ردهات الاستقبال باستراحة الفيحاء وقد جاء لنفس المشهد الخلاب فترددت في تسليمه نسخة من “مصابيح الفيحاء” فهو ابن سمائل ، ومع ذلك تجاوزت فسلمته على أمل أن يعذر ويجبر العثرات ويكمل نواقص الكتاب.
وتحت عسجد ولجين قمر التاسع من صفر تركنا استراحة الفيحاء لنمخر الوادي السمائلي الذي أشعل مصابيحه لليل شاعري جديد ، ومعنا درر الهلال السيابي عن الفيحاء في تطريز سمائلي مستحق :
كأن على فيحا سمائل مسحة
من الله أوحاها السنا المتطاول
كأن تراب المجد في جنباتها
عوالي المواضي قد جلتها الصياقل
كأن خرير الضفتين بروضها
صهيل المذاكي هيجتها البواسل
كأن عبير الروض بين فروعها
عبير العذارى أفرزتها الحمائل
كأن على الوادي المبارك حلة
مطيبة قد ضمختها الغلائل
كأن نوادي العلم في عرصاتها
مقاصر من روض الجنان طوائل
كأن ضفاف الوادي حلة عبقر
وقد طرزتها المرزمات الهواطل
——————-
حمود بن سالم السيابي
———————
مسقط في ٢٥ سبتمبر ٢٠٢٠م