رغم ظهوره في زمنٍ لمعت فيه ثلّة من كبار المفكرين، تمكّن هذا الأديب القدير من اجتراح مكانةٍ مرموقة بينهم، وهذا ما يقوله عنه النقّاد حين يستعيدون آثار مُعاصريه كعباس العقاد وطه حسين. وهي مكانة استحقها بما كان له من شَغف في الكتابة بحثاً عن أشكالٍ تعبيريّة جديدة.
كنت ولا زلت أقول إن مصر الحبيبة ولّادة، ولها فضل كبير من بعد الله تبارك وتعالى في إنماء الروح الثقافية والأدبية الكبيرة من خلال ما تركت لنا من أدباء قطعت شهرتهم حدود النيل، بأشواط، لكل أديب من أبناء مصر حكاية، من أنيس منصور إلى طه حسين إلى العقاد، والمنفلوطي والرافعي، وعبد القدوس والقائمة تطول، لكن حكاية اليوم عن شخصية من الممكن القول إنها مشاكسة بالطريقة اللطيفة والإيجابية بحسب الشخصية والطريقة التي اتسمت بها، هذه الشخصية هي الأديب القدير، إبراهيم عبد القادر المازني (1889 – 1949)، الشاعر والروائي والناقد والكاتب المصري الكبير، وأحد رواد النهضة الأدبية العربية في العصر الحديث، استطاع أن يجد لنفسه مكانا متميزاً بين أقطاب مفكري عصره، وأسّس مع كل من عباس العقاد وعبد الرحمن شكري مدرسة الديوان التي قدمت مفاهيم أدبية ونقدية جديدة، استوحت روحها من المدرسة الإنكليزية في الأدب.
وقبل الغوص في تلافيف هذه الشخصية القديرة، يجب فهم مدارك مدرسة الديوان التي تم تأسيسها على يد ثلاثة أدباء مرموقين، شكري (1887 – 1958)، والعقاد (1889 – 1964) وبالطبع المازني، سميت المدرسة بهذا الاسم نسبةً إلى الكتاب المشترك (الديوان) الذي أصدره العقاد والمازني، وكان هدف المدرسة بحث الأوضاع الأدبية التي كانت سائدة في ذلك الوقت، والدعوة إلى مذهب أدبي جديد، أسموه بالمذهب الإنساني المصري العربي الجديد، إنساني لأنه يترجم عن طباع الإنسان بعيداً عن الصناعة المشوهة، ومصري لأن دعاته مصريون وتؤثر فيهم الحياة المصرية، وهذا صحيح، كل من سكن مصر وعاش فيها لأي سبب لا بد أن يتعلق بها، كما تعلقت بها وبأدبائها وشوارعها وتراثها ومساجدها في فترة دراستي الجامعية في التسعينيات، وأما عربي فمن المؤكد لأن اللغة الأم هي اللغة العربية، لكن هنا يجب التوقف عند مسألة غاية في الأهمية، فكما قلنا في مقال سابق عن المحقق الكبير محمود شاكر عندما نقد أستاذه عميد الأدب العربي، طه حسين، في مسألة الشعر الجاهلي، مصوباً له الحقائق، كان هناك على الضفة الأخرى أدباء على ذات المستوى من الذائقة الأدبية الكبيرة التي وضحت مفاهيم خاطئة وبيّنت أخطاء وقع فيها أدباء آخرون من خلال ترجمتهم لبعض الأمور من الانكليزية إلى العربية ونسبها لهم، بالتالي، فقد كتب المازني مقالاً عنونه بـ “صنم الألاعيب” أوجع فيه صاحبه عبد الرحمن شكري بنقده اللاذع على خلفية اتهام الأخير بترجمة روايات من الفرنسية والانكليزية إلى العربية ونسبها للمازني، لكن بالعودة إلى مدرسة الديوان، فقد كانت للأصدقاء الثلاثة قراءات مستفيضة في كتب التراث العربي، شعراً ونثراً، واللغة الانلكيزية كانت أداة اتصالهم بالفكر الغربي، في الشعر والنقد والفلسفة، من مسرحيات شكسبير إلى أشعار بيرون وشللي وكيتس، وشتارل زلام وغيرهم من أعلام الأدب والنقد في المدرسة الرومانتيكية وغيرها.
صلة اللغة الانكليزية لم تكن عبر استخدام وسائل الترجمة التقليدية التي نعرف، فكان الأديب منهم إما أن عاش خارج بيئته في إحدى الدول الغربية للدراسة أو للعمل وأتقن اللغة عن قُرب، أو تخصّص بها كما حدث مع الأديب شكري، على سبيل المثال حيث درسها في بريطانيا، وينطبق الأمر على الفرنسية كذلك، بالتالي، الترجمة تكون مبنية على قواعد وأسس لغوية متينة كما الغرب نفسه، وتتم بأكاديمية ومهنية عالية إلى جانب توفر القناعة فيما يُترجم، على عكس مترجمي اليوم الذين يستخدمون برامج ترجمة سريعة الأخطاء فيها كثيرة، بالتالي لا عمق في أي نص مترجم وبالطبع يكون خالي المضمون من أي تعبيرات أدبية قد تصل للقارئ أو المتابع، لأن ذلك يقتل البحث العلمي ويضر بالباحث نفسه، وهذا ينطبق على ما نجده اليوم في الكتب المعاصرة نلاحظ أن ترجمتها سيئة جداً جداً، لسبب معروف وهو اعتماد التقنية الالكترونية لا الأكاديمية، بالتالي تقتل حتى الروح الأصلية للترجمة، وأيضاً عند تحويل النص للعربية، أما قديماً كان التبحر في علوم اللغة شرط أساسي للنجاح (هذا أمر مهم سنتكلم حوله لاحقاً عن التركة والباحث الحقيقي، المحامي المستشار فتحي زغلول، الشخصية المثيرة للجدل، ومترجم الكتب الفرنسية خصوصاً كتب القانون، وكان علماً من أعلام مصر رغم النقطة السوداء الكبيرة في حياته وهي “مذبحة دنشواي”، عندما كان قاضياً في محكمة دنشواي التي قضى فيها عدد من الفلاحين المصريين وكان هو يعمل لصالح الانكليز).
بالتالي، نهض رواد مدرسة الديوان من أجل تحديث طرق التعبير عن الفكر والوجدان حين يتشابكان مع عالم مضطرب، كل ما فيه يتغير بسرعة البرق، بعد أن خلخلته حربان عالميتان وهزّه انهيار الخلافة العثمانية. وقد اختار المازني الكتابة، من ضمن مجالات عديدة، في مجال السيرة الذاتية، وهو جنس أدبي مستحدث، في ذلك الوقت، أي: في ثلاثينات القرن الماضي، فقد أراد من خلال الخوض فيه أن يقطع مع برود الخيال ولا سيما في صيغته الرومنسية والكلاسيكيّة المحافظة، التي تميزت بالتكلف البارد، ولذلك اجتهد في استعادة الحيوية الواقعية لشرائح من المجتمع المصري، يسبر أغوارها ويحلل تجاربها عبر لغة عربية أخّاذة، تلتزم أسلوب السخريّة ووضعَ اليد على الملمح الضاحك المُضحك، مخالفاً ما سار عليه طه حسين في “الأيام” والعقاد في “سارة”، وقد تجسّدت هذه الوسائل الأسلوبية بوضوح في “قصة حياة”، التي كتبها المازني وهو في أول عَقده الخامس، أيْ حوالي سنة 1940، في غمرة حرب عالمية ضارية. فكانت مزجاً أجناسياً متناغماً بين التراجيدي والكوميدي، بين المعاناة والمعابثة، يروي من خلالها وقائع مختارة من طفولته ومراهقته، مُدرجاً فيها تأملات في الحياة والموت، في الوجود والعدم.
بالعودة إلى محور موضوعنا إبراهيم المازني، ولد إبراهيم محمد عبد القادر المازني في القاهرة عام 1890، ويرجع أصله إلى قرية “كوم مازن” بمحافظة المنوفية. تخرج من مدرسة المعلمين عام 1909، وعمل بالتدريسِ لكنه ما لبث أن تركه ليعمل بالصحافة، حيث عمل بجريدة الأخبار، وجريدة السياسة الأُسبوعية، وجريدة البلاغ، بالإضافة إلى صحفٍ أُخرى، كما انتخب عضواً في كل من مجمع اللغة العربية بالقاهرة والمجمع العلمي العربي بدمشق، وساعده دخوله إلى عالم الصحافة على انتشار كتاباته ومقالاته بين الناس، فكانت بداياته الإبحار في الشعر ونظم الكلام، ثم جنج نحو الكتابات النثرية ليترك لنا تراثاً غزيراً من المقالات والقصص والروايات، الأمر الذي أهّله لأن يكون ناقداً متميزاً ومترجماً بارعاً، حيث ترجم من الانكليزية إلى العربية العديد من الأعمال، وقال عنه العقاد: (إنني لم أعرف فيما عرفت من ترجمات للنظم والنثر، أديباً واحداً يفوق المازني في الترجمة من لغة إلى أخرى شعراً ونثراً)، فقد تميّز أسلوب المازني في الكتابة بالسخرية اللاذعة والفكاهة، واتسم بالسلاسة والابتعاد عن التكلف وهذا الأمر هو مفتاح الدخول إلى قلب الجماهير، كما تميزت موضوعاته بالعمق الذي يدل على سعة اطلاعه، وأهم ميزة لديه أن كتاباته خرجت عن التقاليد والأعراف السائدة.
لقد حاول المازني في أن يمزج بين القديم والحديث ليصنع أسلوبه المميز، فكانت له شخصية مميزة في النقد التطبيقي، فهو مثلاً يبالغ في سخطه وفي نفس الوقت يغالي في مدحه، كما هو يمزج بين النقد اللغوي والنظريات النقدية الحديثة كما فعل مع المنفلوطي وشكري الذي وصف كتاباته أحياناً بالهذيان، وابن الرومي، فهو متأثراً غالباً في نقده بعلاقاته الشخصية وحبه وسخطه وكثيراً ما عاد عن ذلك وندم على ما كان، فهجومه كان ادعاء في فرط الحساسية والمبالغة في الألم والشعور، لكنه في الحقيقة كان متناقضاً مع نفسه، هذا ما تجلة في كتبه (إبراهيم الكاتب، وإبراهيم الثاني) فقد كتبهما كما كان يكتب كل من شكري والمنفلوطي بحساسية، بالتالي، يمتاز أسلوب المازني أيضاً بالسهولة والاستطراد والسخرية والطلاقة في التعبير إذ كانت لغته صورة من روحه، وكان يمتاز بالتفصيل في التصوير والتعبير، يقول المازني عن نفسه: (وجهت قلبي إلى المعرفة، وبنيت لنفسي آمالاً، وغرست أوهاماً وأحلاماً من كل نوع، وكان نصيبي من كل ما بقي.. قبض الريح)، وقال الأديب الكبير أنيس منصور في كتابه “هؤلاء العظماء ولدوا معاً”: “الفرق بين الأربعة عباس العقاد، طه حسين، وتوفيق الحكيم وإبراهيم المازني..العقاد: يحاضرك، طه حسين: يحدثك، توفيق الحكيم: يداعبك، إبراهيم المازني: يسخر منك ومن نفسه.. فكان المازني أسوأهم حظاً وأقلهم اهتماماً من النقاد والمؤرخين.. مع أن المازني كان أرقهم وأعمقهم وأسبق زمانه.. فإذا كان في أدبنا الحديث كله واحد يمكن أن يوصف بأنه الأديب الوجودي دون أن ينازعه أحد في ذلك”.
المازني هو من أبرز الشخصيات المبدعة والنجوم الساطعة في تاريخ الأدب المصري، يجمع بين الواقعية والخيال والسخرية والفكاهة والحزن، لم يعش ببرج عاجي بل اندمج بمجتمعه وعبر عن آماله سواء في إبداعاته الأدبية أو مقالاته الصحفية، لأن طفولته لم تكن سعيدة كما كل الأطفال فقد اختبر اليتم، وكانت والدته كل حياته، وكان يصفها بأنها “سيدة الدنيا”، حيث أن لها مواقف مشرفة ومؤثرة في حياته فقد أصرت أن يستكمل تعليمه وذلك بعد أن اقترح أخيه الأكبر أن يترك إبراهيم دراسته ليذهب للعمل لسوء أحوالهم المادية، هذا بالطبع أثر في تكوين شخصية الأديب المازني، يقول النقاد أنه اجتمع الفقر مع إعاقاته الجسدية والنفسية ليجعلوا كتاباته سوداوية حيث لا يرى إلا الجانب القاتم كما كان عدمياً لا تستوقفه غير النهايات؛ حيث كان الموت هو موضوعه الأثير في قصائد ديوانه وفى عناوين كتبه وقد غلف كل هذا بالسخرية والفكاهة لدرجة أنه قد كتب رثاء لنفسه قال فيه:
أيها الزائر قبري اتلو ما خط أمامك .. ها هنا فاعلم عظامي ليتها كانت عظامك
ورغم أن المازني كان شخصية مرحة ساخرة إلا أنه كان لديه قضيته التي يؤمن بها وهى انتماؤه وحسه الوطني وقد اشترك مع محمد حسين هيكل ومحمد عبد الله عنان في وضع كتاب اسمه (السياسة المصرية والانقلاب الدستوري) يهاجمون فيه الحكم الديكتاتوري لصدقي باشا. رغم هذا الحس الوطني الواعي إلا أنه لم ينجح في استثمار السياسة كما أن السياسة لم تخدمه، ففي الوقت الذي اختار العقاد أن يكون وفدياً وأن يصبح كاتب الوفد الأول، وقف المازني في الجانب الذي لا يربح حيث وقف في خندق الأحرار الدستوريين وهو مليء بكبار المثقفين مثل أحمد لطفي السيد وطه حسين ومحمد حسين هيكل ومحمود عزمي، وغيرهم إضافة إلى أنه لم يشارك في معاركهم السياسية ورغم أنه كتب كثيراً في جريدة (السياسة) لسان حال الأحرار الدستوريين إلا أنه كتب في البلاغ وهي وفدية، ولكن المحصلة أن السياسة لم تخدمه كما خدمت العقاد وطه حسين ورغم هذا فقد كانت بعض آرائه السياسية (سابقة للعصر) حيث كان من أوائل الذين دعوا للوحدة العربية واعتبرها ضرورة محتمة لسلامة الشعوب العربية وأمنها وقد كتب في عام 1935 مقالاً بعنوان (القومية العربية).. ولذلك فإن المازني – عكس كثير من معاصريه – قد استمد شهرته من الأدب والكتابة فقط. كما كان المازني واحداً من أهم أعمدة النهضة الثقافية العربية وأهم الأصوات التي نادت بتجديد الثقافة العربية بتحويلها إلى عملة تنفع الناس.
ساهم المازني كثيراً في تحديث الأدب المصري والعربي، وكانت السياسة التي رسمها وآخرون أن يكون الأدب تعبيراً عن الكاتب وتصويراً لما يجول في نفسه وعقله، والأهم أن المازني كان صاحب أسلوب لم يستطع أحد أن يستنسخه بعد أن استطاع أن يجعل من اللهجة المصرية لغة عربية فصيحة؛ حيث وضع علامات الإعراب على حروف هذه اللهجة وجعل من ألفاظها اللينة الجميلة كلمات ناصعة في معجم جديد للغة ليتكلم بها الناس كما كان حريصاً على استخدام الفصحى بعد أن جعل العامية مطية لها وخادماً فى موكبها، وكان أسلوبه خالياً من كل العثرات، كما كان من أوائل الذين قاموا بتعريف الأدب الغربي إلى قراء العربية وذلك نتيجة إجادته الرائعة للترجمة وقد ترجم العديد من الكتب المهمة مثل رباعيات الخيام والآباء والأبناء لتور جنيف وسانين لآرتز يباشيف، كما قدم ملخصات لروائع الأدب العالمي.
أخرج المازني أكثر من أربعين كتاباَ في الإبداع والنقد. والغريب أن كل هذا الإبداع لم يشفع للمازني لكي يحصل على أية جائزة، ومن الواضح أنه كان مستشعراً لهذا الوضع الغريب فكتب يقول: “عصرنا عصر تمهيد يقوم أبناؤه بقطع هذه الجبال التي سدت الطريق وتسوية الأرض لمن يأتون بعدهم.. وبعد أن تسوى الطريق يأتي نفر من بعدنا ويسيرون إلى آخره ويقيمون على جانبه القصور شامخة باذخة فيذكرون بقصورهم وننسى نحن الذين شغلوا بالتمهيد عن التشييد”، فمن أبرز كتبه: (إبراهيم الثاني، إبراهيم الكاتب، أحاديث المازني، الديوان في الأدب والنقد، الشعر، ثلاثة رجال وامرأة، حصاد الهشيم، ديوان المازني، رحلة إلى الحجاز، قصة حياة، عود على بدء وغيرهم).
وكما عاش حياة مليئة بالعمل والإبداع، كان لرحيله ذات الألم بسبب مرضٍ ألمّ به وفارق الروح الجسد في العام (1949)، عن عمر التاسعة والخمسين، كان ليعطي أكثر لو أن كان له من الحياة نصيب، إلا أنه حقق في سنواته تلك ما عجز عنه كثيرون، هذه الشخصية وإن كانت لها وما عليها، فقد ظُلمت وتستشعر ذلك من قراءة سيرته وحزنه على ابنته وفي وصف أمه، حتى في نقده اللاذع، لا تخلو مسحة الحزن من ثنايا قلمه، رقيق الطباع، المهنية هي الغالبة، والوطن أولاً، ثم دفء العائلة والأسرة، الشعر والنثر، الأصدقاء خصومة ومصالحات، تناقضات كبيرة اختربها هذا الأديب، لكنها في مجملها شكّلت هذه الشخصية التي نأمل أن نجد مثيلاتها في أيامنا هذه.
د. عبدالعزيز بن بدر القطان – كاتب ومفكر / الكويت.