نغمض أعيننا ونفتحها -نحن البشرَ المساكينَ- فإذا دَواهٍ كموج البحر تأتي على إنسانيتنا وقيمنا ومبادئنا.. ليس بالضرورة أن تكون متدينا لترى ما نرى، يكفي فقط أن تكون إنسانا سويا على فطرتك -كما باقي الخلق والعوالم-مهما كانت خلفيتك وثقافتك ودينك لترى الهولَ الذي تعيشه الإنسانيةُ في الحرب عليها وعلى مجتمعاتها، وأنوية القيم التي تحكمها، ويتصدر ذلك ويتقدمه الحرب على الإسلام، ربما لأنه يدعو للفطرة وينطلق منها، حتى باتت الثقافة الإسلامية -من حيث الفطرةُ الواحدة- سمةَ أفرادها كانوا مسلمين أو مسيحيين أو غيرَهم، أو ربما للهيكلة المتكاملة والمتقدمة لأنظمته المختلفة؛ الاجتماعية، والتشريعية، والاقتصادية، والتعبدية، وهو ما لا شك يُعَدُّ عَقَبةً كَأْدَاءَ أمام طوفان المادية ووجها القبيح.
لا زال العمل قائما على تفكيك مجموعة الروابط بين المسلمين وإسلامهم، بل بين البشر وقيمهم، مباشرةً تارة عبر طرح بعض القضايا طرحا اجتزائيا مثلِ المرأة، والإرث، والقوامة إلخ، أو غيرَ مباشر عبر تشريع ما يُكَرِّس الإهانة والاستهانة بمقدسات الأمة بصورة بطيئة غير مستشعرة، كانت بشرا (كالرسل) من خلال عدم الصلاة عليهم وتعظيمهم ومساواتهم بغيرهم من الناس في المقام، وبرسوم الكاريكاتير والمقالات والأفلام المهينة في حقهم بزعم حرية التعبير وغير ذلك، أو إرثا (كالسُّنة) من خلال التشكيك بها رأسا، أو أيامًا (كرمضان والأعياد) من خلال بث موادَّ تُخَالفُ المراد من تلكم الأيام وإشغالِ الناسِ بها، أو نُسُكا (كالحج والعمرة) من خلال تحقيرها ومشاعرها، ومؤخرا يُعْمَلُ على النيل من يوم الجمعة وقداسته من خلال الحطِّ منه مقابل أيام أخرى عبر تجريده خصوصيتَه بالسعي لصلاة الجمعة بمقدماتها، وجعلِها مثلَ الصلوات الأخرى، لا تحضير لها ولا تبكير، ولا تغسيل ولا تبجيل، ضمن ذات المخطط الخبيث.
بين نظامين:
تُعدُّ الفترةُ ما قبل الثورة الصناعية فترةً تتسم بالحرية وعدم التنظيم الجمعي في أوقات العمل، لذلك كان الناس أكثرَ مُلكا لأوقاتهم، وأكثرَ تحكما فيها، ولديهم الأريحية في تنظيم أوقات راحتهم وأوقات عملهم، فالتجارة لهم، والمزارع لهم، والبحر لهم، والصناعات البسيطة في بيوتهم.
جاءت الثورة الصناعية، لتنتشرَ المصانعُ وتنموَ الرأس مالية في وجهها المادي البشع، وكان من نتاجها استلابُ الناس -في مجموعاتٍ- أيامَهم وطاقاتِهم عبرَ عقودٍ كانت مجحفةً بهم، في بيئة مليئة بالظلم والانتهاكات لصالح صاحب المصنع أو الشركة أو رأس المال.
تسبب هذا النوع من العقود في تنامي ظاهرة خطيرة من مظاهر الاستعباد، حتى بدأ الطلب يزداد لسن تشريعات تحمي العامل (الطرف الأضعف) مقابل رب العمل، فكانت وزاراتٌ للعمل، وقوانينُ تنظم العمل بين العامل وصاحب العمل، وكان من أول الحقوق التي أعطيت للموظف هو يومُ إجازة، لترميم تلكم الساعات التي لم يَعدْ يملكها خلال أيام الأسبوع.
ولأن الثورة الصناعية بصيغتها الحديثة ظهرت في أوروبا ومع اليهود والنصارى -قاطني المنطقة- بالتحديد، كان لا بد من اختيار يوم الإجازة ليكون من أيام الأسبوع المناسبة، فلم يكن أنسبُ من يوم صلاتهم الأسبوعي ليتفرغوا للصلاة والعبادة والذهاب للكنائس والأديرة، فكان يَوْمَاْ السبت والأحد المختارَينِ، وباختيارهما ضمنوا الإنتاجية من جهتين؛ جهةٍ روحية،؛ يجدد الناس جانبهم الروحي والنفسي خلال هذينِ اليومين، ليكونوا على طاقة عالية بداية الأسبوع، وجهةٍ اقتصادية؛ فهذان اليومان ضائعان كليا أو جزئيا بسبب الصلاة والاستعداد لها، مما وفر للعمل أيامًا ذات إنتاجية عالية بسبب عدم تخللها لأي ساعات للصلاة الأسبوعية.
لذلك فعملية المقارنة بين عهد ما قبل الثورة الصناعية (ومنها عهد الرسالة ونزول القرآن) وما بعدها هي عملية مخلة غير صحيحة، لما بيَّنَا أعلاه، والعدالة تقتضي نقل الأيام وإنزالها منزلها من التقدير بالنسبة للأيام الأخرى، قبل الثورة وبعدها، فالجمعة بالنسبة للمسلمين اليوم تتعطل فيه أعمالهم للصلاة، فكانت العطلة بعد الثورة أولى بها الجمعة للمسلمين، كما كان السبتُ والأحدُ أولى بها لليهود والنصارى.
فاسعوا إلى ذكر الله؛
قد يعتمد مؤيدو العمل في الجمعة على كون المطلوب فيها صلاتها لا غير من الآية ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ)، وأن باقي اليوم لا عطلة فيه بل عمل بمفهوم الآية، وهو مدخل أساء المعتمدون عليه تأويلهم، ونجمل جوابنا عليهم فيما يلي:
- الآية تتناول مجتمعا وحقبة سبقت الثورة الصناعية، حيث لا تنظيم جمعي للعمل، وحيث السبت والأحد وسواهما كانت أيام عمل، فالسعي هنا مطلق للناس، كانوا في بيوتهم -يوم الجمعة قبل الصلاة- أو في أعمالهم، وليس هناك ما يصرف لأي منها، والتجارة ذكرت لذاتها، ولمقامها الاجتماعي والعملي، وكونها جاذبا للبائع/ التاجر في ربحه، والمشتري/ المستهلك في تملكه، ولحقيقة أنها دائمة غير منقطعة، وهي إن نجح الناس في الانصراف عنها للصلاة، فسينجحون فيما هو دونها من أعمال الحياة، بما فيها الدعة والسكون في البيت، فليس السعي بهذا من العمل يومئذ بل حتى من البيت.
- الآية تُعيّن صلاة الجمعة بالسعي إليها دون غيرها من الصلوات وترك البيع، ليس لأن الله لا يحث على السعي لغيرها من الصلوات، إلا أن سعي الجمعة سعيٌ جماعي تتأثر به مناحي الحياة اليومية العامة والأعمال وتتعطل، ولو كان جلوسا في البيوت.
- السعي يعني العزم والنية والقصد، وهذا يتطلب التحضير، وقد بينت السنة أشكال التحضير ليوم الجمعة، منذ ليلتها (مساء الخميس) عبر قيام الليل، إلى قراءة القرآن، فالغسل فالتزين فالتبكير للصلاة، وهذا يحتاج لساعات تحضيرية قبل أن تحين الصلاة، ويصرف من باب التلقائية كون المجتمع المدني أو المسلم بأفراده يومئذ مشغولا بالتحضير للصلاة كما بينتها سنة النبي محمد صلى الله عليه وسلم ومتعطلا عما عداه من أعمال يومية معتادة، وهو ما يشبه وضعنا اليوم، من ثم فالجمعة عمليا وممارسة عطلة المسلمين منذ الأزل من باب الطبيعة!
- كان الناس يسعون للأعمال أيام الاسبوع بحرية كما أظهرنا (قبل الثورة الصناعية)، وليس عندهم عطلة جماعية إلا يوم صلاتهم الجماعية، الجمعة عند المسلمين، والسبت عند اليهود، والأحد عند النصارى، من ثم فتعطيل الناس عن الأعمال لا يبدأ إلا بهذه الأيام عند كل جماعة، ويمكن أن يضاف إليها، لا أن تُنْتَقص هي منها!
- عملية تجاوز يوم الصلاة الأسبوعي الأعظم وإقرار العمل فيه أو في بعضه، وتعطيل يوم آخر دونه في الاعتبار الجمعي والقداسة الدينية يعد ضربا لهذا اليوم ولهذه العقيدة والثقافة، واستهانة بها، وعدم اعتبار!
- مخالفة معنى أمر السعي في الآية ومنع التحضير لصلاة الجمعة كما يجب وكما جاءت بها السنة عن الرسول صلى الله عليه وسلم، والتضييق على الناس في شعيرتهم التي أوجبها الله عليهم، ومحاربتهم اجتماعيا في حرمانهم من تربية بيوتهم لتعظيم هذا اليوم والسعي للصلاة فيه يرقى لخيانة الدين وثقافة المجتمع والوطن لمن أدرك هذه الآثار وتعمد تجاهلها، ويرقى للإهمال والتخاذل لمن لم يبذل جهده في البحث عن أثر هذا القرار على مجتمعه وعلى الناس.
- من حيث مصلحةُ الدنيا، فالإنتاجية في ساعات عمل يوم الجمعة (والسبت والأحد عند اليهود و النصارى) بحكم الاعتبارات الدينية والثقافية هو أقل ما يكون خلال الأسبوع، استعدادا نفسيا وجسديا، والقيام من ثم بتأجيز الأحد بدل الجمعة لا يعوض كفاءة ساعة العمل الواحدة والعالية يوم الأحد بتلك المنخفضة في يوم الجمعة.
الخلاصة أن الناس المؤيدين لفكرة العمل يوم الجمعة ولو لنصف يوم يقومون بضرب الدين والدنيا معا؛
ضَربِ الدين؛ بالاستهانة بشعيرة من شعائره العظيمة، العظيمة في شكلها؛ الصلاة الجامعة، والعظيمة في ديمومتها ووقتها الأسبوعي، ويخالفون وجه السعي الذي أمر الله به، والذي يجعل الناس يُحَضِّرون ويهيئون له قبل ساعات، تلك الساعات التي يَئِدُها ويقتلها التوجه الجديد عمدا وعن سبق إصرار وترصد (عند البعض)، وينتزعها قانونا من ملكية الناس الحرة لملكية عقد العمل، ويبقي لهم فقط وقت أداء الصلاة دون سعي.
وضربِ الدين أيضا بإفقاد الجوامع هيبتَها ودورَها (والتي من هيبتها تعليقُ صلاة الظهر وأذانها في المساجد الأخرى عدا الجوامع)، فيضرب هذا التوجه الجوامع في “كمِّ” المصلين وعددهم، حيث يكون في تناقص وتراجع لعديد من الأسباب (الانشغال بالأعمال والمدارس وغيرها)، ويضربها في “كيف” المصلين، حيث تفقد الجوامع الحضور الأسري، ويصبح الحضور أفرادا وليس أسرا بآبائهم وشبابهم وأطفالهم وحتى نسائهم، وتضربها روحيا، حيث لا يهيأ لها ولا يُحضَّر، فالأفراد يأتون من زخم ساعات عمل مجبرين عليها، قد أكلت منهم تلكم الساعات وشربت، فأعرقتهم وأغرقتهم وأحرقتهم وأشغلتهم بها عن صلاتهم، فأي روحانية ستكون لصلاتهم والحال ذاك، وتضربها في مقامها، حيث تأتي ثانيا في السعي بعد مقرات العمل، فالتزين والتطيب وغيره يكون لها ثانيا بعد مقار أعمالهم وشركاتهم، وليس لها سعي وعمل خاص بها ومقدمات مسنونة قبل أن يحين وقت الصلاة.
وضرب الدنيا (بالنسبة للمسلمين)؛ باستعاضة ساعاتِ إنتاجيةٍ ذات كفاءة عالية (ساعات الأحد)، بساعات إنتاجية ذات كفاءة منخفضة (ساعات الجمعة).
وأخيرا نُجْمُلُ رسالتنا للحكومة وأصحاب القرار في عُمان وغيرها من بلدان المسلمين عامة في قوله سبحانه: (وَمَن يُعَظِّمْ شَعَٰائِرَ ٱللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى ٱلْقُلُوبِ).. وقوله: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ)، فالرزق الحقيقي والبركة فيه لا يأتي إلا بتعظيم أيام الله والتقوى فيها، وما دون ذلك فهو ترجمة صريحة لما تنبأ به المصطفى لأصحابه من اتباع المسلمين سنن الذي من قبلهم شبرا بشبر وذراعا بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلوه، رغم أنهم كثير ولكنهم غثاء كغثاء السيل، فنرجو أن لا نكون نحن ضمن هذا الغثاء، وأن تُكْرَمَ عُمانُ وسلطانها وشعبها من ذلك، ونذكر أنفسنا ونذكر القارئ الكريم من سورة الجمعة ذاتها -ونحن نتكلم عن يوم الجمعة- أنه ما صح على من حُمِّلُّوا التوارة ثم لم يحملوها يصح على من حُمِّلُوا القرآن ثم لم يحملوه مثلا ونتيجة: ( مَثَلُ ٱلَّذِينَ حُمِّلُواْ ٱلتَّوْرَىٰةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ ٱلْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًۢا ۚ بِئْسَ مَثَلُ ٱلْقَوْمِ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِـَٔايَٰتِ ٱللَّهِ ۚ وَٱللَّهُ لَا يَهْدِى ٱلْقَوْمَ ٱلظَّٰلِمِينَ)، نعوذ بالله لعمان وقيادتها وشعبها ولدول المسلمين بل ولدول العالم أجمع من سوء مَثَلِ حمل الأمانة ومن الظلم فيها، ومن قرر من الدول العربية والمسلمة فعذره عند ربه، بكونهم ربما في الواقع أقليةً وغرباء في بلادهم حقيقة، والأكثرية غيرهم، أو بغير ذلك من مبررات يعلمها أصحاب الأرض، كما لو شاءت الدول عامة الانفتاح دون الوقوع في المحظورات أعلاه، فيمكن عَدُّ الجمعة والسبت والأحد (٣ أيام) إجازةً رسمية بذات الاعتبارات أعلاه، لكون العالم يوجد فيه المسلم والمسيحي -وبحضور أقل- اليهودي في أغلب الأحيان، والله المستعان.
عبدالحميد بن حميد الجامعي
الأحد
٧ جمادى الأولى ١٤٤٣ هـ
١٢ ديسمبر ٢٠٢١ م