إن واقع الأمة منذ 100 سنة وإلى اليوم، تتغير الأسماء والواقع ذاته، السلطة مرتهنة للخارج، والمستقلة تُعاني، وما بينهما شعب أنهكته التجاذبات السياسية لكن هذا لا يبرر له، لأنه الشريك الأساسي في تمادي حكّامه، فالحاكم لو وجد سيلاً بشرياً يقف في وجهه لما تمادى، ولما تجرأ على إنهاك بلاده والأهم لما وضع يده بيد المخلّص والذي هو كان فيما ما مضى هو احتلال.
وليس بالضرورة، أن يكون المحتل من يأتي على ظهر دبابة، الأمة محتلة معنوياً، واجتماعياً واقتصادياً وسياسياً، كلما انحاز الشعب تجاه حزبٍ ما أو تعصّب لمذهبٍ ما، أو تيارٍ ما، هنا لا مكان للوطنية، لا مكان لنهضة الوطن، أقول وخلال 100 عام كاملة، حدثت ثورات وحروب وسقوط ملكيات وإمبراطوريات، وأنظمة، وتبدل الحال، ما بين واقع أسود إلى واقع أحلك سواداً عما كان قبل، وهكذا حتى مجيء الربيع العربي، الذي إن أعجب البعض أو لم يُعجب، لكنه كشف عن عورات استبداد الأنظمة وظلم الشعوب، أوجد كيف يتم القمع والقتل والأسر والتعذيب والتهجير، وهذا كانت تتناقله الشعوب سراً، لم يكن بمقدور احد البوح خوفاً من الذهاب خلف الشمس.
الربيع العربي عرّى هؤلاء، رغم أن بعض الثورات سلكت مسلكاً آخراً، وكما أقول دائماً، لكل فعل رد فعل، ولكل أمر له وما عليه، ولسنا بصدد تقييم الثورات، فلكل بلد طبيعة تحكمها وتتحكم بحيثياتها، لكن لنأخذ على سبيل المثال لا الحصر، مع سقوط نظام الرئيس الراحل محمد حسني مبارك في مصر، ومن بعده الراحل محمد مرسي، نجد أن الشعب المصري تقبّل واقعه الجديد، فلا نجد من يخرج إلى العلن ويبدأ حملة ذم وقدح بحقهما، فهما كانا جزءاً من مصر الأمة الكبيرة إن كان حكمها حتى ولو ليومٍ واحد، هناك حالة من الاحترام، كذلك اليوم في ليبيا، كل الأخبار تتعلق بحكومة الوحدة الوطنية الليبية المؤقتة، بسير عملية الانتخابات المقبلة في 24 ديسمبر/ كانون الأول الجاري، لدرجة أنه لولا ترشح سيف الإسلام القذافي ابن الرئيس الليبي الراحل معمر القذافي، لما كان أحد سيذكره رغم كل سنوات حكمه، مع الإشارة إلى أن أمثلة هذه لا علاقة لها بمظلومية الشعوب أو كيفية إدارة البلاد، بل عن إدارة البلاد ما بعد حقبة هذا الرئيس أو ذاك.
وإن عرّجنا على تونس وعلى الرغم من المشادات الكثيرة بين الأحزاب التونسية والحزب الحاكم، هذا أمر صحي، وهذا أمر موجود في كل الدول، لكن هل من أخبار عن زين العابدين بن علي، قلّما نسمع في ظل مطالبات الشعب الجديدة ما بعد زين العابدين، باختصار هذه البلاد كأمثلة قليلة تحاول النهوض مستفيدة من أخطاء الماضي لا أن تتمسك بأطلال الماضي، سواء كان الحكّام مخطئين أم لا، فهي توجه نقدها للموجود على الساحة الآن.
اليوم يخرج علينا من مثقفي الأمة ومنظريها في عالم السياسة الكثير، يخرجون بصور رموز وشخصيات وأحزاب وتيارات يحبوها، ولا بأس في ذلك، لكن أن تحب هذا أو ذاك، هذا أمر شخصي ولا لأحد حق في التدخل فيه، لكن فرض أفكار هذا التيار أو الحزب إسلامي أو ليبرالي أو يساري أو أياً كان هذا مرفوض، لأن المفكر والمثقف الحقيقي هو من يطرح الموضوع بمنطقية وموضوعية، لا يعتمد على العاطفة في تحليل واقع سياسي، والأهم أن يقرأ التاريخ ليستطيع تحليله بشفافية، خاصة عند الحديث عن مرحلة زمنية سابقة، أو عكس ذلك يذهب باتجاه العيش في الماضي، ومن يعيش في ماضٍ دون الاستفادة من إيجابياته وسلبياته، لا يمكن له أن يتطور أو يتقدم.
العراق أكبر مثال حي على ذلك، فهو بلد الخير والخيرات، قرر التخلص من الماضي وأسقط النظام، واستبدل بآخر وآخر وآخر ودخل المحتل وخرج، لكن منذ العام 2003 إلى اليوم، ماذا حقق العراق؟ الحديث اليوم عن الجفاف وعن الأمن المائي العراقي، سأقولها بحق وصدق، قطعت إيران قرابة 40 نهراً متدفقاً نحو العراق، هي قانونياً أنهار دولية عابرة للحدود، وثمة اتفاقيات دولية تنظم حقوق الدول المشتركة في تلك الأنهار، كذلك سد إلسو التركي خفض من حصص العراق المائية، وهذا الحدث جديد لم يكن في عهد ما قبل العام 2003، هل تحرك أحد لعلاج هذا الموضوع، اليوم التصحر بات يجتاح 39 بالمئة من الأراضي العراقية، كما تهدد زيادة ملوحة التربة القطاعَ الزراعي في 54 بالمئة من الأراضي المزروعة، لكن إن كان الأمر يتعلق في الكويت أو دولة أخرى، نجد التهجم واسع النطاق، لكن بالنسبة لأسباب مشاكل العراق، نجد كثر يتسمرون كالأصنام.
خلاصة القول، قال تبارك وتعالى: (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم)، الأمة هي ذاتها، لكن الشعوب هي العاجزة لأن العصبيات تتحكم بها، وواقع الحال لن يتغير مادمنا أولاً لا نعترف بذلك، وثانياً، لا نملك إلا العجز، فلنطلق العنان للمثقفين ونكف عن إطلاق الأحكام، وألا نكون أبواقاً للسلطة أو الأحزاب أو التيارات، ليكن الولاء أولاً وأخيراً للوطن.
د. عبدالعزيز بن بدر القطان – كاتب ومفكر/ الكويت.