
عمّان في 26 أكتوبر/ العمانية / يرصد الباحث إبراهيم غرايبة في إصداره الجديد “من الهرمية إلى الشبكية” حجم التحولات الضخمة التي تحدث من حولنا، والمرتبطة بما أصبح يُطلَق عليه “الثورة الصناعية الرابعة”.
ويقدم غرايبة رؤاه في هذا العمل الصادر عن “الآن ناشرون وموزعون”، محاولاً أن يذلل الصعوبة المتعلقة بعلاقة العالم العربي باستحقاقات تلك الثورة، التي يقف أمامها متفرجاً في الصفّ الأخير من مسرح الأحداث والتطوّرات العلمية والتكنولوجية المتسارعة في الغرب، وفي أجزاء من شرق آسيا في حقبة العولمة المعاصرة.
ويضم الكتاب ستة فصول تتوزع على 420 صفحة، واعتمد المؤلف في إنجازها على مجموعة من الدراسات العالمية الرصينة والعميقة في الحقول المعرفية المختلفة.
ويبدأ الكتاب بموجز في تاريخ التقدّم الإنساني، وتتبع موجات التطوّر البشري والإنساني من الزراعي وتطوّر طرق التجارة في العالم القديم من طريق الحرير وإيلاف قريش، إلى الصناعي والثورة الصناعية في أوروبا وتطوّر المدن في القرن الثامن عشر، واستخدام الأرقام العربية في أنظمة المحاسبة العالمية بداية من القرن الثالث عشر الميلادي وصولاً إلى الموجتين الثالثة والرابعة المتمثلتين بالحوسبة أو الشبكية.
فعلى إثر هاتين الموجتين ظهرت مفاهيم ومقاربات جديدة مثل “إنترنت الأشياء”، و”الاتصالية الجديدة”، و”البيانات الضخمة”، و”التعلم العميق”، و”الذكاء الاصطناعي”، و”الواقع الافتراضي”، و”السحابة المعلوماتية”، وغيرها من المفاهيم التي أفرزتها المنظومة المعرفية المنتجة لهذه التكنولوجيا، والتي تقف اللغة العربية عاجزة عن استيعابها أو ترجمتها لأنّها تولّدت من حضارة أخرى.
ويشير غرايبة في كتابه إلى أهمية هذا النوع من البحوث، مؤكداً أن الحديث عن هيمنة التكنولوجيا على المعنى “ليس توقعاً مستقبلياً ولا فكرة نظرية، لكنّه أمر واقع يتشكّل أسرع مما يتوقع معظم الناس، وربما يكون العالم بحلول منتصف القرن الحالي عالماً آخر مختلفاً في تنظيمه ومؤسساته وأعماله وأفكاره وقيمه، ويمكن في هذه المساحة أن نفكّر في مجموعة القضايا والأفكار العملية المطروحة في الفضاء العام”.
ويتحرى المؤلف التحولات الضخمة التي تجري على المستويات المعرفية والاقتصادية والثقافية والسياسية والمجتمعية، والاتجاهات التي تتشكّل من خلال ذلك، في رحلةٍ تشمل فصول الكتاب جميعها، ينتقل خلالها ما بين روايات الخيال العلمي واكتشافات البحث العلمي والتحولات الاجتماعية والثورات العلمية التاريخية في محاولة لاكتشاف ملامح عالم جديد هو في طور التشكل.
ويحاول غرايبة جاهداً أن يوطّن كثيراً من المفاهيم والمصطلحات، حتى تطاوع القارئ العربي العادي من خلال ربطها باستخداماتها الكثيرة الموجودة بين أيدي المستهلكين العرب. خاصّة أنّ الشبكية قد تحوّلت إلى فلسفة في الحياة والإدارة والتعليم والسياسة والثقافة بديلاً للهرمية القائمة، وانعكست في قطاعات عدة، خاصّة في الإعلام الذي أصبح تفاعلياً يتبادل فيه الأعضاء خدماتهم ويحصلون على احتياجاتهم.
ولا ينسى الباحث أن يؤكّد الأدوار التي تلعبها سيرورة العولمة في تطوير الآليات التكنولوجية. وفي الوقت نفسه يشير إلى معضلة التكنولوجيا المتطوّرة المتمثلة بأنّ شبكة الإنترنت لم تصل إلى جميع الناس في العالم، الأمر الذي يزيد من الفجوة بين الأغنياء والفقراء، ويزيد من فجوة التكنولوجيا، ويحرم القطاعات المحرومة من الاستفادة القصوى من السوق المعرفية والمعلوماتية العملاقة. مع الإشارة إلى أنّ تأثيرات ثورة الإنترنت ما زالت في بدايتها.
ويلفت غرايبة النظر إلى أنّ الإنسان اليوم لم يعد يتميز بالتفكير؛ لأنّ الذكاء الصناعي و(الروبوت) وبعض الحواسيب العملاقة تفوّقت على الذكاء البشري في الإحاطة ببعض أنواع المعرفة وتنظيمها وتحليلها.
وبذلك، قد يفقد الإنسان مكانته بوصفه مرجعاً؛ لأنّ الأجهزة الرقمية تنفّذ بتسارع كبير المزيدَ من مهمّات الإنسان التي كان يتميز بها مرجعاً للمعرفة، وبذلك يفقد خاصيّة احتكار توليد المعرفة وإنتاجها. وهذا الأمر أوجد معضلة فلسفية حول سؤال الأخلاق والعدل والقيم والصواب والخطأ والثقة، بعيداً عن التنظيم الهرمي السلطوي والاجتماعي في ظلّ الشبكية، وسؤال الثقافة الإنسانية التي يُفترض أن تتشكّل حول اقتصاد المعرفة، والعلاقات الاجتماعية والإنسانية التي فرضتها سيرورة التطوّر التكنولوجي.
ويؤكد غرايبة على أهمية الإنترنت وتوفره في بناء مجتمع المستقبل، فيقول: “ربما تكون من الأهداف الاجتماعية التي يجب النضال لأجلها هي مشاعية الإنترنت بما هو خدمة عامة ومرفق أساسي مثل الطرق والمدارس والمستشفيات، إذ يُفترض أن تكون متاحة لكل فرد ومؤسسة فرصة الوصول إلى الشبكة بالقدر الذي يتاح له أن يسير على الشوارع والأرصفة ويرتاد الحدائق العامة، وتكون هذه المشاعية المفترَض أن ترعاها الحكومات والبلديات والشركات في سياق مسؤوليتها الاجتماعية القاعدة الأساسية للعمل والتشكل الاجتماعي والاقتصادي”.
ويرى أن مشاعية الإنترنت هذه ستمهد لكثير من الخطوات التي ينتج عنها بناء المؤسسات الاجتماعية والمهنية والاقتصادية من خلال الشبكة لأجل التعليم والرعاية والتأثير في السياسات والأسواق، وتخفيض الهدر في الإنفاق والمشاركة في الأسواق المتاحة وطنيّاً وعالميّاً (فالعولمة التي أنتجتها الشبكية تتيح موارد جديدة وتستولي على موارد قائمة)، وتقديم ما يمكن تقديمه من خلال الشبكة لأجل الحصول وعلى أفضل وجه ممكن على الخدمات الأساسية وبناء المعارف والمهارات، وتطوير الأسواق والجماعات والمدن والأحياء باتجاه ما يجب أن تكون عليه.
ويشدد غرايبة على ضرورة الاستعداد لهذه المتغيرات التي تنتقل بالمجتمعات عملياً ومعرفياً من النظام الهرمي إلى النظام الشبكي، ذلك أن هذه التحولات تعمل لصالح الأكثر استعداداً وتنظيماً والأكثر مالاً وموارد، لكن “هؤلاء الذين لم يستفيدوا من الفرص ولم يشاركوا فيها ليسوا بمنأى عن تحدياتها وخسائرها، فهي ليست فقط لا تعمل لصالحهم، لكنها تُفقدهم مواردهم وأعمالهم وأسلوب حياتهم”.
ويخلص المؤلف إلى أنه إذا كان عدم المشاركة في فرص العولمة والشبكية اختياراً ممكناً، فإن النجاة من شرورها ليست اختياراً.
/العمانية / 174