مخطئ من يعتقد أنه بخروج الرئيس الأمريكي الأسبق، دونالد ترامب وصهره جاريد كوشنر، أن صفقة القرن توقفت على الأقل على المدى المنظور، فطالما التطبيع الاقتصادي يسير بوتيرة عالية، هذا يعني أن الأمور تسير وفقاً للمخطط المرسوم لها بدقة بالغة وعناية كبيرة.
إن عودتي للحديث عن هذا الموضوع، يأتي بعد أن قرأت أغلب التحليلات السياسية للدور الصهيوني مؤخراً في المنطقة، إن كان في اتفاقياته العسكرية أو التجارية وحتى الثقافية منها، إلى جانب الاعتداءات المتكررة على سوريا وآخرها وليس أخيرها، استهداف ميناء اللاذقية التجاري المدني، وأشدد على كلمة (التجاري) الذي يخلو من أية مظاهر عسكرية، ما يعني أن ثمة أهداف غير معلنة رسمتها السياسة الصهيونية بالتعاون مع الحليف الأقوى في العالم، الولايات المتحدة الأمريكية.
لكن قبل الغوص في تفاصيل هذه الاعتداءات ومآلاتها وتداعياتها، لا بد من العودة إلى الخلف قليلاً لربط الأحداث بعضها ببعض، خاصة وأن التحليلات السياسية لا تعكس واقعاً ما يحدث خلف الأبواب المغلقة، فلا يخرج إلينا إلا ما يُراد كشفه أيضاً لمآلات محددة كإظهار حق يُراد به باطل، فالدول العربية فيما يشبه الإجماع مندفعة في طريق التطبيع، وبعضها حصل على مغريات معينة لا داعٍ لذكرها، لكنه حسم ملفات كانت مستعصية قبل التطبيع، ضاربين بعرض الحائط آمال الشعب الفلسطيني، إن كان بحق العودة أو استرداد وطنه، أو حتى التفكير قليلاً بمستقبله المجهول.
تحولات المشهد العربي والإقليمي
لربط واقع اليوم مع الأمس، لا بد من نبذة تشرح الوضع الذي يخطط له الكيان الصهيوني ليس على المدى المنظور فقط، بل على المدى البعيد أيضاً، ولنركز على حيفا، التي تُعتبر عاصمة العالم لتجارة الطاقة (الغاز والنفط)، إضافة إلى أدوار مثل، أن تكون المنفذ التجاري الدولي”الوحيد” لدول الخليج على الأقل في التجارة مع أوروبا وأمريكا، بالتالي، تصفيرالأهمية النفطية والتجارية لمضيق هرمز المعتمد من جانب إيران، وتصفير جيو – سياسي لروسيا وجعل هذه المدينة مركز استقطاب للأثرياء حول العالم.
كما سيقف ميناء حيفا على خط سكة حديد يمضي جنوباً وصولاً إلى سلطنة عمان ، مارّاً على عواصم ومدن الخليج وجزيرة العرب، خط قطار (حيفا – صلالة) سيضع جزيرة العرب في السلة “الإسرائيلية” اقتصادياً، فهو نافذة الخليج والجزيرة على عالم البحر الأوروبي، وبذلك حتى دبي التي تُعتبر اليوم مركزاً اقتصادياً ستفقد أهميتها مستقبلاً، وهنا لا أحلل بل أسرد واقعاً سيحصل مستقبلاً، لكن المخطط الأخطر من كل ذلك، هو تجميع غاز ونفط الخليج وجزيرة العرب، عبر خطوط أنابيب برية، لتصديره من ميناء حيفا إلى أسواق أوروبا تحديداً، بمعنى آخر أن تصبح حيفا مقبرة المكانة الجيو – سياسية لروسيا في أوروبا والعالم، حيث أن الكيان الصهيوني يضع يده فعلياً على كنوز الغاز في مياه شرق المتوسط، (وربما هذا أحد أسباب تدمير سوريا والبنى التحتية فيها)، ليس فقط مقابل شواطئ فلسطين، بل أيضاً مصر، ولبنان وقبرص واليونان وتركيا. فسوف يتحكم في أسعار وحجم الإنتاج في سوق الطاقة العالمي، بل من الممكن أن يصل الأمر إلى قدرته من فرض عقوبات وضرب أي دولة منتجة تحاول التمرد على قواعد السوق الجديدة للطاقة.
بالتالي، إن تحقق هذا السيناريو، فإن كيان الاحتلال بعد ان يسيطر على سوق الطاقة، سيتمتع بقدرة خارقة على تشكيل الأوضاع السياسية لكثير من الدول، بل وحتى التحكم في المناخ السياسي الدولي، والنظام العالمي، بإذعان غربي كامل لتكتمل المشنقة الإقتصادية “الصهيونية” على رقاب البشر. وهي المشنقة التي تأخذ حالياً شكل عقوبات أمريكية و”حروب إقتصادية بالوكالة” ضد العديد من دول العالم، في إرهاصات لحرب إقتصادية يهودية شاملة لإخضاع العالم، هذا الأمر يدفعنا للتفكير بأن للحرب السورية أبعاداً غير التي أعلن عنها، ودخول اللاعبين الروسي والإيراني بثقلهما الواسع للدفاع عنها، ما يعني ضمناً الدفاع عن مصالحهما وفقاً للتحليل المذكور آنفاً، ما قد ينذر بأن الحرب المقبلة إن وقعت لا بد أن تكون مدفوعة بالأسباب الآنفة الذكر.
أيضاً في مما يتعلق بمشروع نيوم، فهو مشروع حيوي للكيان الصهيوني، ومن المؤكد ان نتائجه كارثية على العرب والمسلمين، عسكرياً، واقتصادياً وسياسياً، واستراتيجياً، فهو يغطي أرضاً تعادل مساحتها مساحة فلسطين. ويطل على400 كلم من ساحل البحر الأحمر، ويغطي ضفتي خليج العقبة بما فيها ألف كيلومتر مربع على طول ساحل العقبة من جهة سيناء. كما سيضم المشروع أهم الأهداف “الإسرائيلية” التي ترغب في إبعادها عن الصورايخ المعادية (إيران، حزب الله)، الأهم من ذلك كله أن المشاريع الصهيونية ستنتقل إلى أرض المشروع هذا، خاصة المشاريع والأسلحة النووية، ومشاريع تطوير أسلحة دمار شامل من أنواع أخرى.
بالتالي، ما علاقة استهداف الموانئ المتوسطية بكل ما ذُكر آنفاً؟
تعددت الروايات التي تتحدث عن المسؤول في استهداف مرفأ بيروت في الرابع من أغسطس/ آب (2020)، وتعددت الروايات حول مسؤولية تدميره، فهو شريان حيوي وخزان لبنان الرئيسي في الصادرات والواردات، وبتدميره، سيتجه الموردون والمصدرون إلى اعتماد بدائل أخرى، فقد اتجه البعض نحو ميناء طرابلس ريثما يتم العمل لإصلاح ما تم تدميره، وبصرف النظر عما قيل آنذاك، لكن هذا يأخذنا إلى الدور الصهيوني الذي يملك المصلحة الكبرى في تدميره، زد على ذلك لتحقيق المخطط لا بد من تدميره، ولا يوجد أكثر من العملاء لصالحه منتشرون حول العالم، بالتالي، قد يكون هذا سيناريو مؤرجح يحتمل التصديق ويحتمل التكذيب، لكن مع استهداف ميناء اللاذقية مرتين في شهر واحد، أمر يجب التوقف عنده، خاصة خلوه من أية مظاهر عسكرية، وحتى إن وجدت فمن غير المعقول أن تغامر إيران بإرسال شيء إلى حزب الله مجاهرةً وأقمار الكرة الأرضية ترصدها، لكن في الاعتداء الأول ربما ظن البعض أن هذا السيناريو هو الصحيح، لكن مع الاستهداف الثاني، تأكد ربما أن استهدافه هو استكمال للمخطط الصهيوني في المنطقة.
بالتالي، تعمل حكومة الكيان الصهيوني على شل البلاد العربية من الناحية الاقتصادية من خلال تدمير أهم مرافئها الحيوية إن كان مرفأ بيروت أو اللاذقية، ولاحقاً مرفأ طرابلس، ما يتيح لمرفأ حيفا القيام بكل مهام تلك المرافئ كجهة وحيدة يضطر الجميع للتعامل معها في ظل فقدان الأمن والأمان على المصدرين والمتعاملين مع تلك الحكومات، ما يضعفهم اقتصادياً، وبنفس الوقت يقوي الكيان الصهيوني، وبطبيعة الحال نأمل أن يفشل هذا المخطط رغم أن كل المعطيات تشير إلى أن الأمور تسير وفقت نهج متسارع، خاصة مع الصمت العربي المُخزي، لأن هذا الشر هو يطال الإنسان قبل المواقف السياسية.
أخيراً، لا مستفيد من انحطاط بلادنا إلا الكيان الصهيوني وهو سؤال لا يحتاج إلى تحليلات لأنه واضح المعالم، لكن يبقى اللوم والعتب قائم على العرب، في أن تُستباح الدول الشقيقة إن كانت سوريا أو العراق أو لبنان أو مصر تحت مسميات عديدة لكنها فارغة المضمون في ضوء الاستحواذ على مقدرات تلك البلاد وغيرها، والعتب الأكبر على الدول الغنية المطبعة التي باتت تحكمها علاقات جيدة مع كيان الاحتلال، في أخذ موقف واضح من عربدتها المستمرة على الدول العربية، فإن لم يحدث ذلك، فعلاً نحن اليوم أمام دين جديد وسياسة جديدة واقتصاد جديد، المستفيد الوحيد منه الصهاينة فما يبدو العرب أنهم موظفين لديهم، فلنقطع الطريق عليهم قبل فوات الأوان.
عبدالعزيز بن بدر القطان / كاتب ومفكر – الكويت.
المصادر:
https://www.mafa.world/2019/07/25/ – مشاريع (حيفا ــ نيوم): تصفير استراتيجي