إن ربط الأوضاع الحاصلة في السودان منذ انقلاب 25 اكتوبر/ تشرين الأول العام (2021) أصبحت واضحة المعالم، لن ينهيها استقالة هنا، أو تحقيق مطلب هناك، ما ينهيها هو إشراك الشعب في آلية الحكم، من خلال نقل السلطة بشكل سلس يلبي طموحات شعب استُنزفت قواه لا بل خارت ودفع الثمن من قوته وأرواحه، لكن مع شديد الأسف دون جدوى.
حكم العسكر
خلال ثورات الربيع العربي وعملياً منذ العام 2011 إلى اليوم، أثبتت الآلة العسكرية أنها غير مجدية أمام جحافل المواطنين المطالبين بأدنى حقوقهم، وبصرف النظر عن التشعبات التي جرت في ثورات الربيع العربي، لكن ما يهمنا هو الشكل العام لكل أشكال القبضة الأمنية التي خنقت الشعوب وضاقت ذرعاً بها، الشعب السوداني كما باقي الشعوب، لا يزال يعاني من تبعات الانقلابات وما رافقها من أوضاع تفاقمت على مر السنوات، لكن السؤال المهم هنا، هل سيقدر الشارع السوداني، على تحقيق مطالبه التي تبدو راديكالية للبعض، بإنهاء حكم العسكر تماماً، وتنصيب حكم مدني خالص للبلاد؟
أم أن الواقع الحالي وتعقيداته، وميراث الحكم العسكري الممتد عبر عقود من الزمن، سيجبر القوى المتحركة في الشارع السوداني على القبول بمواءمات وحلول وسط، تستهدف إيجاد أرضية مشتركة، يمكنها أن تحفظ المكاسب التي حققتها القوى المدنية في السودان، دون انقلاب عسكري كامل يستخد سياسة القبضة الحديدية.
بالتالي، لقد كان السودان يعيش هدوءاً حتى وإن كان نسبياً ما قبل الانقلاب الأخير، أيضاً ليحضر سؤال مهم، ما الذي تحقق من هذا الانقلاب سوى هدم ما تم بناؤه نسبياً في المرحلة السابقة، كانت الأمور تسير على قدمٍ وساق سواء من خلال ما تم تقديمه للسودان على المستوى الدولي، أو إعفائه من مديونيته لصندوق النقد الدولي، ومنحه ما يجعله ينهض مجدداً، طبعاً مع وضع الكثير من علامات الاستفهام حيال تلك التسهيلات المقدمة من الغرب خاصة فرنسا صاحبة التاريخ الاستعماري الأشهر عالمياً في أفريقيا، ورغم ذلك البعض لم يرغب بالتشاركية تحت سماء وطنٍ واحد، بلد دفعت به الأنانية إلى الاستئثار بالسلطة لنفسه على حساب أي شيء آخر، فكان الانقلاب الذي قلب كل شيء معه، انقلاب على الشرعية وانقلاب على الشعب والديمقراطية، انقلاب على الانقلاب نفسه.
وبنفس الوقت، إن المتابع للأحداث الأخيرة في القارة السمراء، بدون أدنى شك يشعر بدنو الربيع الأفريقي، فلا السودان مستقر ولا إثيوبيا على الرغم من النجاحات التي حققها رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد، ولا غينيا ولا مالي، وكذلك الصومال وعزل رئيس وزرائها، وفي ليبيا حدّث ولا حرج، ما يعني أن ثمة ما يُحاك لهذا البلد، فدخلت الولايات المتحدة الأمريكية للتدخل في شؤون القارة بذات الذريعة التي تستخدمها في كل الدول، الديمقراطية، وانتهاكات حقوق الإنسان، دون الإتيان على ذكر قواعدها المنتشرة هنا وهناك، وانتهاكات جنودها في كل المناطق التي يتواجدون بها، وبقي يومان فقط على أحداث الكابيتول الشهيرة التي استوحش فيها أنصار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، فبحسب آخر الإحصائيات انخفضت نسبة المؤمنين من الأمريكيين بالديمقراطية الأمريكية نفسها إلى ما دون النصف، فعن أي ديمقراطية يجب أن نتكلم؟
هذه الأمور كلها، تقول إن السودان على مفترق طرق كلها تؤدي إلى الهاوية، على الرغم من استقالة رئيس الوزراء عبدالله حمدوك، لكنه لم يكن مشكلة السودان من الأساس، بل تعاطف الناس معه وكسب قاعدة شعبية إبان تعرضه للإقامة الجبرية من قبل سلطة المكون العسكري، ما لبث أن خسر تلك القاعدة عند توقيعه لاتفاق الخيانة بحسب الشارع السوداني، في 21 نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي (2021)، لتأتي الاستقالة اليوم كتحصيل حاصل لا أهمية لها سوى إبراء الذمة من التبعات السابقة والحالية واللاحقة التي تعرض لها الشارع السوداني خاصة فيما يتعلق بمقتل 56 متظاهراً في التظاهرات الأخيرة دون تكليف أي مسؤول متابعة هذه الملف والتحقيق فيه لاسترداد حقوق الضحايا، زد على ذلك القمع إن كان عبر القنابل الصوتية أو المسيلة للدموع وقطع الإنترنت والطرقات، كلها عوامل تبين أن القبضة الحالية تضرب بيد من حديد، فالإكمال بهذا النهج من المؤكد أن المحاسبة ستحدث يوماً ما، رغم أنها بعيدة جداً، لكن بات الغدر سمة ملاصقة لما يحدث في الكثير من الدول العربية والسودان ليس استثناءً منها.
ويبدو أن دخول حمدوك في اتفاق مع المكون العسكري، مثل بداية النهاية لدوره الذي قاده بمهارة، في إحداث تحول هادئ في السودان، إذ يعتبر محللون أن الرجل لم يتمكن، من حشد دعم شعبي لاتفاقه مع عبد الفتاح البرهان، في وقت فقد فيه دعم القوى السياسية المؤيدة له في الشارع، والتي اعتبرت الاتفاق “محاولة لشرعنة الانقلاب”، وتعهدت بمواصلة الاحتجاجات حتى تحقيق الحكم المدني الكامل، لكن استقالته أنهت وهم نجاح الشراكة بين المدنيين والعسكر، لكن وبنفس الوقت دفعت استقالته إلى تفرد المجموعة الانقلابية بالسلطة، وفرض الأمر الواقع حيث سيزداد الاحتقان في الشارع السوداني، بما قد يؤدي إلى انفلات للعنف في البلاد في ظل ضعف قبضة الحكومة وقوة قبضة العسكر.
بالتالي، إن مضمون خطاب رئيس المجلس السيادي يركز على وعود بتسليم السلطة في توقيتها المحدد بانتهاء الفترة الانتقالية، وهي وعود قد لا تملك مصداقية للأسف لا داخلياً ولا خارجياً، إذ لم يتم تسليم رئاسة المجلس السيادي للمدنيين وفقاً للوثيقة الدستورية، لكن يبقى الرهان على القوة الصلبة للدولة بشكل مطلق ينفيه واقع أن هذه القوة في السودان منقسمة، أما على الأرض، فيبدو أن هناك قراراً قد تم اتخاذه بالاعتماد على آلية المواجهات العنيفة للمتظاهرين.
أخيراً وفي خضم هذه المرحلة الحرجة المطلوب اليوم لرأب الصدع ومحاولة النهوض بهذا البلد الجميل، سعة صدر مسؤوليه وصبرهم وقدرتهم على التسامح في سبيل المصالح الوطنية السودانية، فللسودان خصوصية يصلح معها فقط التراث السياسي السوداني وليس غيره، فنأمل أن تنتهي هذه الأزمة لما يكون فيه خير ورخاء للشعب السوداني العريق.
عبدالعزيز بن بدر القطان / كاتب ومفكر – الكويت.