لو لم أكن مصرياً لوددتُ أن أكون مصرياً، أشهر كلمات الزعيم مصطفى كامل الخالدة تاريخياً، لا تخلّد في الذاكرة لولا التأثير الكبير الذي خلّفه صاحبها على المستوى الإنساني، في مسيرة الحياة الشخصية والعملية، مصطفى كامل، نعم الزعيم على منهجه وسجيته، الوطنية المصرية بكل أمانة أراها بمصطفى كامل بكل ما احتواه من غيرة وحماسة.
عاش الزعيم حياة قصيرة لم تتجاوز الـ34 عاماً لكنه ملأ الدنيا وشغل الناس وكان مثالاً نادراً للوطنية والتضحية، ومثّل محطة رئيسية من محطات اليقظة الوطنية في تاريخ مصر، كما كان له إسهام عظيم ورائد في تأسيس الجامعة الأهلية في مصر (جامعة القاهرة) وفي تأجيج الصحافة الوطنية، قدره أن يكون مصرياً كما قال، هذا القدر كتب بماء الذهب، وحفظ في التاريخ مدى الحياة، هو إنسان وزعيم عربي عاش حياته مدافعاً عن حقوق بلاده وعن الحرية، التي كان يؤمن بها إلى أن توفاه الله تعالى، كان من المدافعين عن الخلافة العثمانية، ومناهضاً كبيراً للاحتلال البريطاني لمصر، فقد كان مصطفى كامل يفضل وجود الدولة العثمانية عن الوجود البريطاني بكل تأكيد بالبلاد العربية حيث أن الدولة العثمانية كانت تمثل الخلافة الإسلامية وهي التي كان يرى وجوب الخضوع لها، الأثر الذي تركه امتد لأكثر من قرن بعد رحيله على المستويين السياسي والثقافي.
وقناعتي الدائمة، أن البيئة والأسرة هما الأساس في تشكيل أي شخصة كانت، فالأثر الذي تخلّفه التربية مرآة الأشخاص في جوانب كثيرة من الحياة العملية، فكيف كانت بيئة الزعيم مصطفى كامل التي تشأ فيها؟ وما سر حبّه للخلافة العثمانية وكذلك فن الخطابة؟ وعشق مصر والمصريين له؟
كان حي الصليبة، الذي ولد فيه الزعيم مصطفى كامل، أحد الحيين الكبيرين اللذين تنافسا على الوطنية القاهرية عدة أجيال، وكان هذا الحي أحفل بمعالم الحركة الوطنية من الحي الآخر، الذي كان ينافسه “الفتوة” على عهد الحملة الفرنسية؛ لأنه حي القلعة التي كانت مسكن الوالي، ثم صارت معسكر الجيش المحتل، وبقيت إلى جوارها ساحة المحافل القومية، من ركب المحمل، إلى ركب الولاية بعد مبايعة الأمير، إلى ركب العروض العسكري، وكانت مساجد هذا الحي أعمر المساجد بالخطباء الثوريين، ولم يكن في القاهرة مسجد أعمر منها غير الجامع الأزهر في تلك الفترة، في هذه البيئة ولد الزعيم عام (1874)، وكان عمره ثماني سنوات عندما احتل الانكليز القلعة في الحي الذي نشأ فيه، وكان والده “علي محمد” من ضباط الجيش المصري، وعُرِف عن الزعيم ميله للنضال والحرية والثورة منذ صغره.
(إنا لو تخطفنا الموت من هذه الديار واحداً بعد واحد لكانت آخر كلماتنا لمن بعدنا: كونوا أسعد حظ منّا، وليبارك الله فيكم، ويجعل الفوز على أيديكم.. مصطفى كامل 1907).
بدت على مصطفى كامل علامات الذكاء والنجابة وقوة الذاكرة في طفولته وهو بعد لم يتجاوز الخامسة من عمره، وقد عهد أبوه في سنه هذه إلى فقيه أن يعلمه مبادئ القراءة والكتابة في المنزل، ويحفظه القرآن الكريم، وفي عامه السادس، دخل مدرسة (والدة عباس الأول)، من هذه المدرسة تفجرت الكرامة والشهامة لدى الزعيم، فقط طلب من والده أن ينقله إلى مدرسة أخرى جراء ظلم تعرض له طفل صغير من مدرسه، فما كان منه أن يطلب ذلك لولا أنه كان مظلوماً، وتميز مصطفى كامل بتفوقه بمراحله الدراسية، ففي فترة دراسته الثانوية لنيل الشهادة، انتبه المرحوم علي باشا مبارك، ناظر المعارف يومئذٍ لفصاحته، فقال له مرة: (إنك امرؤ القيس، وستصير عظيماً)، فكان فصيحاً ساحر البيان، انصرف إلى مقاومة الاستعمار الانكليزي بخطبه ومقالاته، وكتبه، ونشر دعوته السياسية في صحف فرنسا التي اطلع عليها المجتمع الفرنسي، أسس الحزب الوطني وجريدة المؤيد، هذا المجهود أدى إلى فضح ممارسات الاحتلال الانكليزي والتنديد بها في المحافل الدولية، خاصة بعد مذبحة دنشواي، إلى سقوط المندوب السامي “كرومر” كما أسس في العام 1907 حزباً سياسياً لإثارة الروح الوطنية لدى المصريين، وإعداد دستور للبلاد، أطلق عليه اسم “الحزب الوطني” لكنه أسلم الروح بعد أربعة أشهر فقط، كما أنشأ جريدة اللواء المصرية عام 1900، ليس هذا فقط بل أسس أيضاً جريدتان بالانكليزية والفرنسية وأسماهما اللواء أيضاً، كل ذلك في سبيل إيصال الصوت ضد المحتل.
إن تحدثنا عن القومية المصرية تاريخياً، إن مكان مصطفى كامل مرموقاً فيها، فنشأة الروح القومية تشبع بها الشعب ولم يكن ينقصها إلا زعيماً يحمل لواء الأمة عالياً، يجمع المتفرق منها، فكان مصطفى كامل هو الزعيم المنتظر، فالحزب الوطني المصري الذي أنشأه كان أول حزب منظم وله برنامج محدد وزعيم معترف به، لكن ذلك لم ينسيه إسلامه، فالوطن وتعاليمه انبثقت من تعاليمه الإسلامية، يقول مصطفى كامل عن حب بلاده مصر وأهله المصريين، وحبه للدولة العثمانية، رائدة الحركة الإسلامية: (تسمعون من يقول ما بال المصريين يحبون الدولة العثمانية، ويتفانون في نفعها، ولا يألون جهداً في إعلان ذلك الحب، إننا نحب الدولة العثمانية، لأننا قبل كل شيء نريد أن نرى دول شرقية تصدر منها الأنوار إلى كل أمة شرقية، نحبها لأننا بصفتنا مسلمين، نرى أنها تحمي المسلمين في الشرق وتحفظ البلاد الطاهرة المقدسة، فمملكة الخلافة الإسلامية هي في الحقيقة مملكتنا وقبلتنا التي نلجأ إليها ونحوها نتوجه، وإذا قصرنا في واجبنا نحوها نكون لا ريب قصرنا في أعظم واجب)، بالتالي لا تعارض هنا بين فكرة القومية والإسلام بل هو تكامل بين منظور الوطنية التي ترى تميزها في إطار خلافة إسلامية جامعة، كما أن المسألة المصرية هي جزء لا يتجزأ من المسألة الشرقية بالتالي إن قومية الزعيم مصطفى كامل، هي قومية ذات مرجعية دينية.
بالتالي، هذا ما نراه متوافقاً إلى حد كبير مع رؤية السلطان عبد الحميد، الذي لم يكن معارضاً للفكرة القومية لدى المسلمين، لكنه ضده إذا كان سيهدم البنيان الإسلامي، ويكون غربي الصبغة يؤثر على الروح الإسلامية، فكان تقديره أن الشعور القومي الحي سينعش أرواح المسلمين ويكون المحرك لهم ليتخلصو امن تحكم الإمبريالية، وكان اللقاء الأول للزعيم مصطفى كامل بالسلطان عبد الحميد في الآستانا عام (1896) وهناك التقى الزعيم أيضاً بالعديد من الشخصيات الغربية التي كانت تعمل في حقل الصحافة.
من هنا، لقد اعتبر مصطفى كامل المسألة الشرقية، مسألة دينية قائمة على أساس معاداة أوروبا للعالم الإسلامي والدولة العثمانية، وقال إن بقاء الدولة العثمانية ليس ضرورياً للمصريين والمسلمين فقط، بل ضروري للبشر عامة، إن بقاء سلطانها فيه سلامة أمم الشرق والغرب.
وترك مصطفى كامل العديد من الكتب في مجالات متنوعة كالتاريخ والسياسة والأدب إلى جانب كم كبير من المقالات والخُطب، حيث جمعت كلها في مجلدات من قبل شقيقه علي فهمي تحت عنوان”مصطفى كامل باشا: سيرته وأعماله”، ومن أعماله أيضاً، (حياة الأمم والرق عند الرومان، فتح الأندلس، المسألة الشرقية، دفاع مصري عن بلاده، الشمس المشرقة -في حرب اليابان وروسيا-، مصر والاحتلال الانكليزي، رسائل مصرية فرنسية)، وما تميزت به كتاباته أنها كلها تحفيزية لشعب بلاده وإحياء الشعور الوطني في نفوسهم، وتحبيبهم بالاستقلال، لكن وبإجماع المؤرخين أن الأثر التاريخي السياسي الأبرز والأشهر لمصطفى كامل، كان كتاب “المسألة الشرقية” الذي يضم خلاصة آرائه في مشكلات الدولة العثمانية وقضاياها، ويعكس موقفه تجاه الدولة حاضرها ومستقبلها.
ولا بد هنا من ذكر أن الزعيم درس الحقوق، لا عجب أنه كان من العارفين بحقوق مصر والمصريين، حيث التحق بمدرسة الحقوق سنة 1891 التي- مثلما كانت مدرسة للقانون- كانت أيضاً مدرسة الكتابة والخطابة في عصره، وحينما كان في مدرسة الحقوق في مصر كان عباس حلمي الثاني قد جاء “خديو” على مصر وكان عمره من عمر مصطفى كامل وتعرف عليه الخديو وأعجب بوطنيته وحماسه وطلاقة لسانه وألقى مصطفى كامل بين يدي الخديو أثناء زيارته مديحاً شعرياً فيه، وقد التحق الزعيم الشاب بجمعيتين وطنيتين، وأصبح يتنقل بين عدد من الجمعيات، وهو ما أدى إلى صقل وطنيته وقدراته الخطابية، مع الإشارة إلى أن الخطابة في تلك الفترة كانت أهم من الكتابة ووحده المبدع من يتقرب من الشعب بفصيح اللسان، فكانت سلاحاً قوياً محفزاً يشد من الهمم، وفي 1893 التحق بمدرسة الحقوق الفرنسية؛ ليكمل بقية سنوات دراسته، ثم التحق بعد عام بكلية حقوق تولوز، واستطاع أن يحصل منها على شهادة الحقوق، وبعد عودته إلى مصر سطع نجمه في سماء الصحافة، واستطاع أن يتعرف على بعض رجال وسيدات الثقافة والفكر في فرنسا، ومن أبرزهم جولييت آدم، وازدادت شهرته مع هجوم الصحافة البريطانية عليه.
وفي محبته للعلم، عندما تأسست لجنة في مصر للاكتتاب من أجل تأسيس جامعة أهلية مصرية على إثر حملة قادها الزعيم مع ثري مصري هو مصطفى كامل الغمراوي وأرسل إلى الشيخ علي يوسف صاحب جريدة المؤيد برسالة يدعو فيها إلى فتح باب التبرع لمشروع الجامعة، وأعلن مبادرته إلى الاكتتاب بخمسمائة جنيه لمشروع إنشاء هذه الجامعة، وكان هذا المبلغ كبيراً في تلك الأيام؛ فنشرت الجريدة رسالة الزعيم الكبير في عددها الصادر في 30 سبتمبر/ أيلول 1906م ولم تكد جريدة المؤيد تنشر رسالة مصطفى كامل حتى توالت خطابات التأييد للمشروع من جانب أعيان الدولة، وسارع بعض الكبراء وأهل الرأي بالاكتتاب والتبرع، وتوالى التأييد العام للمشروع وسارع بعض الكبراء والعامة بالتبرع، وكان على رأس المتبرعين مصطفى كامل الغمراوي والأميرة فاطمة إسماعيل وحسن بك جمجوم وسعد زغلول وقاسم أمين وبالطبع مصطفى كامل وقد نجحت الجهود في إنشاء الجامعة المصرية، وأتمت لجنة الاكتتاب عملها ونجحت في إنشاء الجامعة المصرية يرأسها الملك فؤاد الأول آنذاك.
بعد نهاية رحلته العلمية كما أشرنا أعلاه، عاد إلى مصر وعمل بالمحاماة فترة قصيرة، ثم تفرغ للنضال الوطني، وحينما أراد الخديوي عباس أن يستقل بالسلطة عن سيطرة الإنكليز، بدأ مصطفى كامل في تأليف لجنة سرية للاتصال بالوطنيين المصريين، من أجل الدعاية لقضية استقلال مصر، وفي فرنسا بصفة خاصة، وقد عُرفت باسم “جمعية أحباء الوطن السرية”، ليلتقي بأحمد لطفى السيد، وعدد من الوطنيين بمنزل محمد فريد، وتم تأليف “جمعية الحزب الوطني” كجمعية سرية، رئيسها الخديوي عباس، كان مصطفى كامل لسان حال الجمعية، فسافر إلى بعض الدول للدعاية للقضية المصرية واستقلال مصر، غير أنه أدرك حقيقة مهمة، وهي أن أسلوب الدعاية للقضية المصرية في أوروبا لا يكفي لحدوث الاستقلال، وأن العبء الأكبر يجب أن يقع على عاتق المصريين، ورغم ذلك استدعى مصطفى كامل من أوروبا حتى تتوقف حملاته الدعائية ضد الإنكليز، ولكن مصطفى كامل رفض، فبدأت العلاقات بينهما تأخذ طابعاً غير مستقر، تحكمه مواقف الخديوي ومصالحه، وحسم مصطفى كامل أمره وكتب رسالة إلى الخديوي قال فيها: “رفعت إلى مقامكم السامي أن الحالة السياسية الحاضرة تقضي علي أن أكون بعيداً عن فخامتك، وأن أتحمل وحدي مسؤولية الخطة التي اتبعتها نحو الاحتلال والمحتلين”.
عانى مصطفى كامل كثيراً من أزماته الصحية، واشتد به المرض عام 1905، وكان يتلقى العلاج في فرنسا، عاد مصطفى كامل إلى مصر وهو في مرض شديد، وألقى خطبة من أقوى خطبه، سماها “خطبة الوداع”، معلناً فيها تأسيس الحزب الوطني الذي ضم برنامجه السياسي المطالبة باستقلال مصر، كما أقرته معاهدة لندن 1840، وإيجاد دستور يكفل الرقابة البرلمانية على الحكومة وأعمالها، ونشر التعليم، وبث الشعور الوطني، وكان الجلاء والدستور أهم مطلبين للحزب، في العاشر من فبراير/ شباط 1908، تُوفي مصطفى كامل بعد حوالي 4 أشهر من إعلانه عن تأسيس الحزب الوطني، تاركاً خلفه تاريخاً وطنياً ناصعاً، يظل فخراً لكل الأجيال، ومثالاً يُحتذى في الوطنية وعشق الأوطان إذا عاش عمره كاملاً يناضل من أجل حرية بلاده حتى الرمق الأخير من حياته، وهو المنادي: إن من يتهاون في حق من حقوق أمته، يعش أبد الدهر مزلزلَ العقيدةِ سقيمَ الوجدان.
وتكريماً لجهوده العظيمة، تم إنشاء متحف يضم بعض المتعلقات والوثائق الخاصة بالزعيم مصطفى كامل، وقد افتتح المتحف رسمياً فى شهر أبريل/ نيسان عام 1956.
سيرة الزعيم مصطفى كامل، مدرسة متكاملة، حافظت على حب الوطن والولاء للوطن والدين في آن معاً، الزعيم مصطفى كامل يجب أن يكون ملهماً لزعماء اليوم من محبي السلطة على حساب الشعوب، فما كتبت ليس إلا جزءاً يسيراً من نضال قصير عمره ثماني سنوات كلنه حفر في ذاكرة التاريخ، على عكس زعماء اليوم برحيلهم تطوى ملفاتهم في أدراج النسيان.
عبدالعزيز بن بدر القطان / كاتب ومفكر – الكويت.