كثيرون كتبوا وتحدّثوا عن الرئيس ياسر عرفات؛ فقد كان بحق شخصية مثيرة للجدل، إذ أحبّه البعض حبًا شديدًا، فرأوا فيه كلّ المحاسن؛ فيما كرهه البعض كلّ الكره، فرأى فيه كلّ المساوئ، وكأن لا خيار ثالث بين الحب والكره، فتاهت الحقيقة.
في كتابه الصادر حديثًا، “إليكم التفاصيل”، تحدّث الإعلامي محمد كريشان عن عرفات حديث رجل عرفه عن قرب، فكان حديثه مزيجًا من المعرفة والتحليل والذكريات، ولم يخلُ أيضًا من بعض القفشات؛ وفي نظري إنّ ما كتبه كريشان هو من أجمل ما قيل عن الرجل، فهو يشدّ القارئ ويجعله كأنه يعايش الأحداث والوقائع التي مرّت بهما.
عن اللقاء بعرفات يقول كريشان: “خليك ستاندباي الليلة، هي الكلمة المعتادة التي تقال لك وأنت تنتظر موعدًا لمقابلة صحافية مع الرئيس ياسر عرفات؛ والأمر يعود إليك، إمّا أن تغفو قليلا وأنت في كامل أناقتك تنتظر جرس الهاتف، أو أن تأوي إلى فراشك مؤجلا تجهيز نفسك بسرعة أول ما يُطلب منك القدوم. المكالمة قد تأتيك منتصف الليل أو الساعة الواحدة أو حتى بعد ذلك، وقد لا تأتي فتتأجل طقوس التأهب لليلة المقبلة أو التي تليها وستعرف صباحًا أنّ عرفات وصل بغداد أو الجزائر أو المغرب”.
رغم أنّ القيادة الفلسطينية استقرت في تونس منذ 1982، إلا أنّ فرصة إجراء مقابلة مع عرفات لم تُسنح لكريشان، إلا مع مطلع التسعينيات عندما كان مراسلا لراديو “مونتي كارلو”. يقول كريشان إنّ الرئيس عرفات كان يبدي تجاه زائريه من الود والترحاب ما يجعلك تعتقد أنك أحد معارفه القديمة جدًا، أو أنّ لك من الود الخاص ما ليس لغيرك من الصحافيين؛ وظلّ محتفظًا بهذا المزاج حتى عن بُعد، بل وحتى وهو محاصر في مقره المعروف باسم “المقاطعة” في رام الله. وما قاله كريشان عن عرفات ذكّرني أنّ هذا الانطباع هو ما خرجتُ به أيضًا بعد مصافحتي اليتيمة لعرفات عام 1986 في ضيافة الغُبرة مع مجموعة من الصحفيين في أول زيارة له لعُمان، إذ شدّ على يديّ ووضع يده اليسرى فوق يديّ في وضع كأنه يبايع أحدًا، وهو ما ذكرتُه حينها لبعض الزملاء.
من الصعب أن يعرف المرء خطوة عرفات التالية، يشير كريشان أنه في إحدى المرات كان حديث عرفات عنيفًا للغاية عن رئيس الوزراء الإسرائيلي إسحاق رابين، وعن سياسة كسر العظام التي انتهجها لوأد الانتفاضة الأولى، ولكن بعد عدة أسابيع وجد كريشان نفسه ضمن الوفد الصحفي المرافق لعرفات على الطائرة المغربية الخاصة التي أقلته من تونس إلى واشنطن، لحضور توقيع اتفاق “أوسلو” في حديقة البيت الأبيض في 13 سبتمبر 93، ومصافحة رابين. وكان اتفاق “أوسلو” مغامرة في حده الأدنى وفق تعبير الراحل محمد حسنين هيكل، الذي نصح عرفات بحسب ما قاله لكريشان شخصيًا، “بأنْ يخوض التجربة دون أن يضع كلّ بيضاته في هذه السلة، وبالذات ألا يعود هو شخصيًا إلى الداخل، واقترح عليه أن يبقى في الخارج قيادةً جامعةً للشعب الفلسطيني في الداخل والشتات ليراقب تقدّم التجربة، حتى لا يصبح في يوم من الأيام رهينة هذا الخيار. وما توقعه هيكل هو ما حدث في النهاية، فدفع عرفات حياته ثمنًا لذلك.
في تحليله لشخصية عرفات يقول كريشان: “ككلّ الزعماء كان عرفات مسكونًا بالخوف من الانقلاب عليه، بدسائس تُطبخ هنا أو هناك، قد تسعى لتلميع قيادات بديلة تسحب البساط من تحت أقدامه، ربما كان هذا سببًا في عدم قبول نصيحة هيكل. فهل كان محقًا في توجسه هذا”؟! في ظني أنّ الإجابة على سؤال كريشان نعم كان محقًا، فبعد وفاة عرفات، ظهرت أكثر من شخصية تريد أن ترث مكانه، حتى لو كان على حساب الثوابت الفلسطينية. كان تقدير عرفات – وهو يرفض نصيحة هيكل – أنّ مجرد موطئ قدم على أرض الوطن كفيلٌ بأن يجعله في موقع أفضل لتجسيد حلم الدولة الفلسطينية، وراهن على أنّ قيام السلطة الوطنية سيكون بلا شك مقدمة لذلك؛ أما إسرائيل – كما رأى كريشان – فإنها راهنت على أمر آخر، إذ خطّطت لتجويف هذه السلطة وجعلها خالية من الدسم، بمعنى تحويلها تدريجيًا وبفعل سياسة الأمر الواقع وموازين القوى المختلفة، إلى مجرد وسيط بين الاحتلال والشعب الفلسطيني في الداخل، بل ومندوب عن هذا الاحتلال، مع سعي حثيث ويومي إلى تقزيم دورها وإفساد عناصرها وتشويه صورتها والابتعاد عن أهداف وجودها. وأنا أتفق مع رأي الأستاذ كريشان؛ فوجودُ عرفات في الداخل ساهم في إيصال الكفاح الفلسطيني إلى ما وصل إليه، وهذا يُعيدني إلى تصريح قديم قاله شيمون بيريز يومًا ما، والقيادةُ الفلسطينيةُ في تونس، إنّ منظمة التحرير الفلسطينية مع مرور الأيام ستكون أشبه بحزب سياسي ليس له علاقة بالكفاح المسلح، وحينها لم أع ما قرأتُ، وناقشتُ الأمر مع بعض زملاء العمل في الإذاعة، لأنّ الأمر كان أكبر من مستوى فهمي، لكنه بعد سنوات تحقق.
عن الجوانب الإنسانية في شخصية عرفات يقول كريشان: عادةً ما يطلب الرئيس من ضيوفه البقاء لتناول العشاء معه، وهو ما فعله معنا أيضًا في إحدى المناسبات، لولا اعتذار أحد مستشاريه بالقول إنّ لدينا حجزًا في أحد الفنادق احتفاءً بمدير إذاعة “مونت كارلو”، فيما كان آخرون يتغامزون فيما بينهم مع ابتسامة خفيفة تنم على رغبتهم في التخلص السريع من هذه “العزومة”.. “غمزاتٌ لم أفهمها إلا حين وقعتُ مرةً ضحية دعوة مماثلة، ليتضح أنّ العشاء المقصود والثابت دائمًا، لا يتعدى الخبز والزيت والزعتر والزيتون وبعض الأجبان مع الشاي”.
في فصل “مات الختيار” يذكر كريشان أنه عندما اختفت طائرة عرفات في الصحراء الليبية عام 1992، ليتضح لاحقًا أنها سقطت وانغمست في كثبان الرمال ليُقتل قائدها ومساعداه، لم يشعر أنّ هذا الرجل يمكن أن يغادرنا هكذا. “ولكن عندما وقف شاحبًا هزيلا وهو يوزّع قبلاته على من حوله قبل دخوله المروحية التي أقلته من رام الله إلى عَمّان ومنها إلى باريس، تملكني إحساسٌ غريبٌ أنّ هذه اللقطة قد تكون الأخيرة في مسيرة هذا الرجل”. ويبدو أنّ ما أحسّ به كريشان كان هو إحساسنا كلنا.
بكوفيته الشهيرة التي يرتّبها فوق رأسه على شكل خارطة فلسطين، اقترن اسم عرفات بالنضال الوطني الفلسطيني.. زعيمٌ استطاع أن يمزج بطريقة فريدة بين المرونة والصلابة.. ظلّ لأعوام يلعب بالبيضة والحجر، ونقل قضية شعبه من قضية لاجئين مشردين إلى قضية تحرر وطني وتقرير مصير.. رجلٌ عاصر طوال تزعمه لحركة “فتح” ثم منظمة التحرير الفلسطينية زهاء الأربعين عامًا، رؤساء وملوكًا عربًا من كلّ ألوان الطيف؛ واستطاع معهم وبينهم أن يبدي قدرة عالية من التكيّف مع أقساهم وأطيبهم.. محبيه وكارهيه.. المخلص منهم ومن هو دون ذلك؛ لم يقطع أبدًا شعرة معاوية مع أيّ كان. كان يرى الود مؤقتًا وكذلك العداوة، وبينهما ظَلّ يتنّقل لأربعين عامًا لم يكلّ فيها ولم يتعب. وتصديقًا لذلك يذكر كريشان نكتة تقال عن عرفات إنه خلال شعيرة رمي الجمرات في الحج، رمى كلّ الحجرات، لكنه احتفظ بواحدة؛ فلما سئل عن السبب، قال إنه لا يريد أن يقطع بالكامل مع الشيطان، فمن يدري؟!!
كان قدرُ عرفات أن يتحمّل التناقضات العربية، كما كان عليه أن يدفع ثمن متاجرة الأنظمة العربية بالقضية الفلسطينية، وقد نجح في ذلك كلّ النجاح. وما كتبه كريشان عن ذلك هو بليغ وصادق إذ يقول” كم من ابتسامة في وجهه كانت تُخفي خنجرًا في ظهره، وكم من عتاب له كان يخفي حرصًا. هو الآخر كان يوزع ابتسامته على الجميع ويمطرهم بقبلاته، لا يهم إن كانت صادقة أم لا؛ فقلةٌ هم أولئك الذين صدقوا معه، في وقت كان هو مدعوًا فيه أن يثبت صدقه للجميع. كانت له قدرة رهيبة على كظم الغيظ والتصرف مع أعدائه، وكأنهم أولياء حميمون. غريبٌ هذا الرجل كم كانت قدرته رهيبة على التعالي على الجراح وعلى نسيان الأذى.
• زاهر المحروقي – كاتب عماني ومؤلف كتاب “الطريق إلى القدس”
جريدة عمان. عدد الأثنين 10 يناير 2022م