الأمة المسلمة خير أمة أخرجت للناس، قال تعالى: (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله)، وهذا يعني أن صفحات التاريخ الإسلامي ناصعة البياض، لكن ورغم ذلك من المعروف أن الأمة الإسلامية وكما كانت في عهد فتوحاتها منطلقة نحو العالمية، شابها غزو فكري في بعض مفاصلها، وغالباً ما كان الغزاة يهدفون إلى تشويه وتزييف التاريخ الإسلامي، كجزء من مخططات الغزو.
كنا نسمع كثيراً عن إحراق المكتبات الإسلامية عند كل غزو، لتدمير تاريخ المسلمين، وهذه حقيقة فبعض الموروث الإسلامي ضاع أثره نتيجة لذلك، ونتيجة لذلك بزغ حديثاً فجر المستشرقون الذين عبثوا وحاولوا النيل من حقائق تاريخ شاء الله أن تكون في أيادٍ أمينة، لتكذيبهم ودحض رواياتهم الكاذبة، وكما هو معلوم أن العلوم الشرعية تعلّم الدارس المسلم كيف يزن الأمور بميزان الإسلام وذلك لهدف واضح الأركان والمعالم، لفهم وإدراك الحلال والحرام، الحق والباطل، الغث والطيب، بالتالي، هذه العلوم وضعت لتبيان الحقائق وكيفية التعامل وفق هذه المبادئ، خاصة وأن الإسلام نظام حياة شامل، قال تبارك وتعالى: (ثم جعلناك على شريعةٍ من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون)، وهذا الأمر ينطبق على التاريخ عموماً والتاريخ الإسلامي على وجه الخصوص، في كتابته ودراسته وتدريسه، ووضع مناهجه وطرائق تدريسه، ومراجعه، قال تعالى: (ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء)، فالعلاقة بين التاريخ والدين هي علاقة وثيقة من وجهة نظر عقدية صحيحة، فيجب تفسير التاريخ والكتابة عنه ضمن ضوابط وتدقيق وتمحيص للخروج بالرواية غن لم تكن دقيقة، أن تكون الأقرب إلى الدقة.
وكما هو معروف أن التاريخ هو دراسة لأحوال الإنسان، وحركته على كوكب الأرض، وأهمية التاريخ تكمن في التفكر في هذا الكون الواسع والتعرف على حضارات الأقوام المختلفة والمجتمعات، وأما التاريخ الإسلامي فهو تاريخ دين وعقيدة قبل أن يكون تاريخ دول ومعارك ونظم سياسية لأن العقيدة هي التي أنشأت هذه الكيانات من الدول والمجتمعات بنظمها السياسية والإدارية والتعليمية والاقتصادية وغيرها، ولأجل هذه الغاية لا بد من فهم منهجية التأريخ وفق الضوابط التي وضعها الدين الإسلامي ووفق منهج علمي صحيح، إذ لا يجوز لأحد العبث بالتاريخ والموروث الإسلامي دون إثباتات أو ما الفرق بيننا وبين من ينقل الإسرائيليات؟
ولا بد للمؤرخ المتخصص بالتأريخ الإسلامي أن يكون على دراية كاملة بموضوع التعرف على المنهج الإسلامي في كتابة التاريخ، وضرووة المعرفة بقواعد هذا المنهج وأهدافه ووسائل تحقيقه والالتزام بذلك حتى لا تنحرف الدراسات التاريخية، فتأتي بآراء وتفسيرات مخالفة للعقيدة الإسلامية ومضادة للتصور الإسلامي، كما يخرج البعض اليوم على شاشات التلفزة ويتحدثون عن تاريخ لا نجده إلا في مخيلتهم.
والثابت أن اهتمام المؤرخين انصب في القرون الثلاثة الأولى على تدوين أخبار الأحداث والوقائع وكان معظمهم يذكر أسانيده وأسماء رواته، ليتأكد القارئ لتلك الأحداث بنفسه من صدق ذلك من عدمه، أما في العصور الحديثة فقد كثرت الانحرافات في كتابة التاريخ واتبعت فيه مناهج الغرب في الكثير من مشاربها، هذه الانحرافات راجعة إلى الانحراف في التصور عند من تولوا كتابته مع الجهل بحقيقة الدين الإسلامي وشموليته، إضافة إلى قصورهم في فهم دلالة المصطلحات الإسلامية مثل الدين والعبادة والألوهية، معتمدين في غالبيته على المدرسة الاستشراقية الغربية، وعليه نشأ جيل لا يشعر بأي صلة تربط هذا التاريخ بدراسة الشريعة وأحكام الإسلام، بالتالي أصبح من الواجب على القادرين من العلماء المسلمين الموجودين على الساحة وممن يُشهد لهم بأن يساهموا في تصحيح الأفكار والمفاهيم والعودة إلى الأصول في هذا النهج، فإبراز المنهج الإسلامي في كتابة التاريخ وتدوين قواعده وبيان ركائزه ومنطلقاته من أهم سائل التصحيح المنشود.
وللمهتمين من الثابت أيضاً أن كتاب تاريخ الطبري (310 هـ) هو أول كتاب جمعت فيه الروايات التاريخية، جمع فيه الغث والسمين بالأسانيد سداً للفراغ الموجود في الاحداث وهي طريقة مُعتبرة عند أهل العلم، وكان عذره أن أوكل مهمة التقصي لمن بعده للتمييز بين الأسانيد والروايات، فابن جرير وابن كثير أخذوا من تاريخ الطبري، وفي العصر الحديث، علق المحقق الكبير محمود شاكر “أبو فهر” على كتاب الطبري بالقول: (التوسع في نقل الأخبار التاريخية لايعني السماح لنفسك بالطعن والتشويه بأشخاص أو دول كان لها دور بارز في خدمة الإسلام والمسلمين، فالواجب التمحيص والتدقيق والإنصاف، لأن التاريخ فيه مدح وذم والمسلم مأمور بالتثبت)، وكثير من العلماء صبّوا اهتمامهم حول هذه النقطة، مثل ابن تيمية والألباني، إذ لا يخلو تاريخ أمة أو حضارة من واجهة قاتمة لكن لابد من جانب مشرق، كما عبّر عنها المؤرخ “ول ديورانت” (الحضارة نهر ذو ضفتين، يمتلئ النهر أحيانا بالدماء والظلم، ولكننا نجد على الضفتين في الوقت ذاته أناسا يبنون الحضارة، ولكن المؤرخين متشائمون لأنهم يتجاهلون الضفاف ويتعلقون بالنهر..).
فمن الخطأ الجسيم النقل دون دراية وتحقق لأن هناك ما لا يصح نقله، وهناك مغرضين في التاريخ، وكم من الروايات التي نسمع بها لا أساس لها من الصحة، بعضها مبني على أحقاد، وتزداد الخطورة إذا كان التحليل وفق فكر مُعين خاصة المذهبي منها، من يتابع السرد التاريخي سيجد مغالطات كثيرة بإنتقاء لقضايا جزئية ثم تحويلها لقضية كلية حاكمة، كقضايا السلطة السياسية أو سلطة الفرد، لتكون قضايا محورية ينطلق من خلالها في الحكم على الروايات التاريخية وفقاً للمفاهم العصرية دون أي مراعاة لظروف ذلك الزمان، بالتالي يكون هذا المنهج بعيد عن الإنصاف وفيه جناية على تاريخ المسلمين، كما علل شيخ المحققين أبو فهر، حول المناهج الجديدة للتاريخ داحضاً مقولة “افهموا التاريخ فهماً جيداً”، “وأصبح تاريخ الإسلام وأدبه و علمه منظوراً إليه من صميم أهله المتحمسين بعين تبغض وقلب يعرض ونفس تزور عنه”.
من هنا، في النظرة التاريخية الحديثة نجد رائحة الاستشراق بين طياتها، بثياب أُناس يزعمون الدفاع عن التاريخ الاسلامي وهم يسيئون إليه من حيث لايشعرون، فهل حقاً تاريخنا الإسلامي بحاجة إلى إعادة كتابته لتنقيته من الشوائب؟ فالقدامى جمعوا الأخبار صحيحها وسقيمها، ودونوها في كتبهم مسندة لكن في رواتها ثقات وعدول، لكن في مراحلهم تلك من التدوين للوقائع التاريخية، كما قال الإمام يحيى بن معين الذي سنفرد لسيرته العنان قريباً، (إذا كتبت فقمش وإذا حدثت ففتش)، على عكس المعاصرين الذين قاموا بصياغة التاريخ الإسلامي وعرض المادة التاريخية وتفسيرها ومفق منظورات ومناهج غير إسلامية مع الافتقار للتحقيق العلمي المعتمد على المقاييس الشرعية، فالعمل من الإيمان، ولتحقيق الإيمان يجب العمل، ولمن يخرج ليتكلم بالتاريخ، فليقرأ التاريخ قراءة واعية ودقيقة ومحكمة ومن ثم نسعد بأن يكون ضيفاً دائماً في جكيع المحافل.
عبدالعزيز بن بدر القطان / كاتب ومفكر – الكويت.