يزخر العراق على مدار التاريخ بوجود مدارس إقرائية قلّ نظيرها وأن معظم المدارس الإقرائية كانت في الكوفة والبصرة، وعليه، العراق يمثل تاريخ كبير للقارئ، وإحياء هذه المدرسة لا شك بأنه يعيد الأمجاد التي اندثرت على مر الزمن، وما مدرسة بغداد الإقرائية إلا امتداد لمدارس الإقراء القديمة في الكوفة والبصرة، وذلك لإحياء دور العراق الريادي في الإقراء.
المدرسة العراقية الإقرائية تُعتبر من التراث الخالد، وقد تمثلت بالأداء الفني الفريد والأصيل الذي يتشرف به كل قارئ، وقد ظهرت أسماء كثيرة خلّدت التاريخ الإقرائي في مدرسة العراق الإقرائية وكان نجمها الملا عثمان الموصلي، الذي يعد شيخ وعميد وسفير المدرسة العراقية الكبرى بلا منازع، ثم ظهرت أسماء لامعة أخرى بزغ نجمها في سماء القرن العشرين، إضافةً إلى المدرسة الإقرائية المصرية المتمثلة بشيخها وعميدها محمد رفعت، حيث تألقت وانتشرت أيضاً في العالم الإسلامي، وكان لها مكانتها وسمعتها، من خلال أقمارها، مثل الشيخ عبد الفتاح الشعشاعي، والشيخ الحصري، والشيخ مصطفى إسماعيل، والشيخ عبد الباسط عبد الصمد، والشيخ المنشاوي وغيرهم، فكانت أصواتهم وتلاوتهم تاريخاً لمدرستهم الخالدة.
الجدير بالذكر هنا، أن ما دفعني للحديث عن المدرسة الإقرائية هو ما حدث معي على الصعيد الشخصي، فأن يوفقني الله تبارك وتعالى في النهل من مدرسة الحديث العراقية عن طريق أستاذي الكبير، المحدّث السيد أنس صلاح السامرائي، أكرمني الله تعالى بأستاذ كبير وعظيم وأحد أعمدة المدرسة الإقرائية البغدادية، الشيخ الدكتور ضاري إبراهيم العاصي.
إلا أن حري بنا هنا، أن نقدّم بعض الشرح البسيط عن المدرسة الإقرائية البغدادية، وما تميزت به، فمن جهة الأداء النغمي، للمدرسة البغدادية والتي تأثرت تاثراً مباشراً بالمقام العراقي والذي أعطى رائحته وصبغته في الأداء القرآني وهذا أعطى ميزة عظيمة في علم التصوير القرآني حيث يمكن للقارىء المثقف بالأداء والنغم أن يرسم الصورة المفسرة من خلال أدائه وبأسلوب علمي بحت، وبالفعل هذه الملاحظة أكرمني بها شيخي وأستاذي الدكتور ضاري إبراهيم العاصي وقد استفدت منها كثيراً في التلاوة القرآنية، وذلك من موقع العراق المتميز، وحضارة العراق الممتدة لآلاف السنين، وأن العراق الجميل كان مركز العالم الإسلامي ومقصد العلماء من كل بقاع الأرض، فنجد في الأداء النغمي، نغمة الركباني والمدمي والحديدي والسفياني والمنصوري، أما القراءة المصرية فقد تأثرت بالسلم الموسيقي، لكن مما لا شك فيه أن العالم الإسلامي تأثر كثيراً بالأداء البغدادي، لأن الذي يخرج من القلب يدخل إلى القلب، كما قال أبو موسى الأشعري (لو كنت أعلم أنك تسمعني لحبرته لك تحبيراً).
العراق بلد الحضارة والعلم والعلماء، لطالما أكرر وأقول إن العراق حيّة لا تموت، فالشيخ الأستاذ الدكتور ضاري إبراهيم العاصي (1957)، قارئ من قرّاء العراق الأوائل، ومن الذين أتحفوا المدرسة المدرسة القرآنية البغدادية، بالصوت الجميل والأداء المبدع الرائع، وتنوع في النغمات والإلقاء البديع، فهو من فطاحل القرّاء العرب، شيخنا الفاضل، حاصل على شهادة البكالوريوس من كلية العلوم الإسلامية في جامعة بغداد، وكذلك الماجستير من جامعة بغداد أيضاً برسالته الموسومة، (مصطلح الأداء القرآني عند علماء التجويد)، كذلك، حصل على شهادة الدكتوراه من جامعة بغداد، برسالته الموسومة (دراسة وتحقيق كتاب التجريد لبغية المريد في القراءات السبع لابن الفحام الصقلي)، خريج المركز الإقرائي العراقي على يد االقارئ الشيخ المرحوم جلال الحنفي، قرأ القرآن على يد المشايخ العراقيين منهم المرحوم نجم الدين النعيمي والشيخ المرحوم عبد الفتاح معروف والشيخ علي داود والحافظ صلاح الدين والقارئ منذر الأعظمي وأجازه الشيخ الدكتور عذاب الحمش من سوريا وقرأ على يد الشيخ المقرىء محمود أمين طنطاوي وكيل مشيخة المقارئ المصرية، ويعتبر من المؤسسين للمركز الإقرائي العراقي في بغداد، فهل هناك تاريخ مشرّف أكثر من ذلك؟!
الشيخ الدكتور صاري إبراهيم العاصي، وبكل فخر أحد أساتذتي الكبار، وهو أحد أعمدة القرّاء الكبار العراقيين، وهو مدرسة نغم عراقية مستقلة، له صوت أستطيع أن أقول إنه أجمل من عبّر به عن القرآن الكريم، إن جاز التعبير، هو يملك خامة صوت قل نظيرها، فيه من الصدق والشجن والحزن الكثير ومن الإحساس الأروع، متمكن جداً من أحكام التلاوة، خريج المدرسة الإقرائية البغدادية العراقية الأصيلة، هذه المدرسة التي أهملت من قبل الإعلام الخليجي والعربي مع شديد الأسف.
ولا بد من ذكر إني كنت من المستمعين الأوائل للشيخ الدكتور ضاري منذ طفولتي، وأملك (أشرطة كاسيت) خاصة له لا زلت أحتفظ بها في مكتبتي، وكانت أمنيتي أن ألتقيه، ولله الحمد والشكر، استجاب الله تعالى لي، كان لي شرف التلاوة على مسامعه، وصوّب لي أخطائي، ومن خلال مراجعة حفظي كان لي خير الأستاذ المصحح في بعض الأمور، وتحولت هذه الصلة إلى صداقة أعتز بها، فبالنسبة لي الشيح ضاري هو امتداد لمدرسة الحافظ خليل إسماعيل، وامتداد للمرحوم القارئ الكبير علاء الدين القيسي السابقي الذكر، وهذه المدرسة التي أتمنى من دول الخليج الانفتاح على المدرسة الإقرائية العراقية ويستمعون إلى تلاوة روادها، ويذيعون هذه التلاوات في الإذاعة الكويتية وفي المملكة العربية السعودية خصوصاً قناة القرآن الكريم، التي تعرض قرّاء من دول عربية وإسلامية كثيرة، وأتمنى رؤيتهم قريباً على شاشاتنا وإذاعتنا وفي مجالسنا، لأن الاستماع لهم لا نظير له.
فهكذا يكون من نذر نفسه لخدمة القرآن الكريم، أن يقتطع من وقته، ويعلم تلامذته، ويصحح لهم، فلي الشرف الكبير أن أنهل هذا العلم منه، ولا بد من ذكر أني استفدت من نصائحه الكثير، وأشكره من كل قلبي على هذا العطاء الممنوح لي بلا مقابل، وبكل محبة وأخوة، وينصح بقلب الأب الحنون، قلب صافي جميل، متعلق في القرآن الكريم، فقد أكرمني الله تعالى في شخص كريم صادق مع الله سبحانه وتعالى، إن كان في علم الحديث مثل أستاذي الكبير المحدث السيد أنس السيد صلاح السامرائي، وكما أسميه (عديل الروح)، وأيضاً أستاذي ومعلمي وشيخي الدكتور، ماهر ياسين الفحل، فهما من الناس التي حظيت بها وأعتبرهما نعمة، فكانوا خير المعلمين والموجهين والمصوبين، والآن أضيف إلى القائمة المكرمة الربانية الجديدة، الشيخ الدكتور ضاري إبراهيم العاصي، ولي كل الشرف بأن أكون تلميذ هذه الأسماء اللامعة.
إلا أن الظروف السياسية التي عصفت بالعراق، عتّمت على هذه المدرسة الأصيلة وقرّائها، بالتالي تم الإهمال إعلامياً، وعندما نسمع للمقرئين القدماء نجد أنهم مغيبين ولا أحد يعرفهم، فلم يأخذوا حقهم إعلامياً، فهل من المعقول ألا نجد مقالات وأبحاث ودرسات تتعلق ببستان الأنغام الحافظ خليل إسماعيل، والحافظ صلاح الدين الملا مهدي، والحافظ الملا عبد الستار الطيار، لقد أهمل تراثهم الإقرائي وقلة من التسجيلات لهم، ربما كما أشرت العواصف السياسية التي لحقت بالعراق كان لها دور كبير في هذا الأمر، لكن نحن فيها اليوم، على تلامذتهم إعادة إحياء ما تركوا وتعميمه ليكون متاحاً للجميع.
ورغم ذلك، كان القرّاء في العراق يحرصون على تلاوة القرآن الكريم عبر المقامات، ومن المعروف أن أهل العراق لطالما كانوا من المهتمين بالقرآن وعلومه وبلغ ذلك ذروته في العصر العباسي، عندما غدت مدينة السلام بغداد قبلة العلماء والفقهاء، حيث تغنى قراء بغداد بالقرآن الكريم واستخدموا معرفتهم كما أشرت بالمقامات وجعلوها في خدمة تلاوتهم وهذا ما سمعته بصوت أستاذي الشيخ الدكتور ضاري إبراهيم العاصي، المحمل بالعواطف والشجن، واشتهرت العراق بمدارس عديدة للقراءة، مثل مدرسة واسط والموصل وبالطبع بغداد، وكانت لكل مدرسة سماتها الخاصة تختلف مقاماتها وتتعدد فروعها، فعلى سبيل المثال، اشتهرت المدرسة الموصلية بمقام البيات وترك لتأثرها بالنغم التركي، وعرفت المدرسة البغدادية بقراءة المخالف وتميزت مدرسة واسط بالقراءة وفق مقام باجلان، ومن هذه المدارس العريقة، برزت نخبة من القرّاء، من أشهرهم كما ذكرت آنفاً، الحافظ خليل إسماعيل، الذي استخدم المقامات في التلاوة منها مقام الزنجران وهو من أصعبها، وفي المستقبل القريب سنتحدث عن المدارس الإقرائية في العالم الإسلامي الغني بها، إن كان في باكستان أو تركيا وماليزيا وبالطبع العالم العربي.
والجدير بالذكر أنه لا أزال أستمع إلى إمام الأداء بالقراءات الشيخ الحصري، والشيخ علاء الدين القيسي، وطبعاً الشيخ ضاري إبراهيم العاصي الذي يملك ثقافة قرآنية ويحلل أي صوت ونغم وأداء والمقامات والحليات والعُرب، من المدرسة المصرية أو العراقية أو المدرسة الإقرائية على المستوى العالمي، فلا أقول إلا ماشاء الله وتبارك الله على هذه الذائقة والتمكن من النقد والقراءة، فأن تخرج الآية القرآنية من القلب وتصورها كما تعني فهذا أهم درس تعلمته منه، فهو خير معلم لي ولي الفخر.
عبدالعزيز بن بدر القطان / كاتب ومفكر – الكويت.