أعتقد أننا في الداخل والخارج الفلسطيني، يجب أن نسلط الأضواء ككتاب ومثقفين وإعلاميين وسياسيين على حجم وخطورة التطبيع الرسمي العربي على مستقبل القضية الفلسطينية والصراع مع المشروع الصهيونية، ويجب أن نربط كذلك جريمة المطبعين العرب بجرائم الاحتلال اليومية، فهذا التطبيع العربي كأنه يمنح الشرعية للاحتلال بالمضي قدمًا، بل الايغال في سياسات الجرائم اليومية المقترفة بحق الشعب الفلسطيني، بل يمكن أن نوثق للتاريخ، بأن جريمة المطبعين العرب؛ أشد وطأة وخطورة ومرارة على الشعب الفلسطيني من جرائم الاحتلال!
وفي هذا السياق، يقول البعض لي كتبت كثيرًا عن التطبيع والمطبعين العرب، ولا حياة لمن تنادي، ويقول البعض الآخر لقد أُشبع هذا الموضوع كلامًا وكتابةً وبحثًا منك ومن غيرك؛ ألم تتعب منه…؟! ويقول البعض الثالث: قد يساهم هؤلاء المطبعون -حسب زعمهم- بتليين المواقف الصهيونية لصالح الفلسطينيين على أساس التطبيع مقابل حقوق الفلسطينيين، ويدعي البعض الرابع “أن الفلسطينيين كانوا أول من طبع مع الاحتلال؛ فطالما هم يطبعون هناك، فلماذا إذن نلوم المطبعين العرب…؟! ولا يميز هؤلاء واقع الفلسطينيين تحت الاحتلال القسري وحتمية التعامل معه في كل ما يتعلق بتفاصيل حياتهم كون الاحتلال هو من يملك زمام الأمور عمليًا عن الواقع العربي في الخارج..! وغير ذلك من المزاعم والادعاءات التبريرية الانبطاحية المتبرئة من القضية والعروبة.
وفي الرد على كل ذلك أقول: أبدًا هذا التطبيع هو الأخطر والأخطر على القضية الفلسطينية، لأنه يساهم في هدم الجدران العربية المناهضة للعدو، ويساهم في اختراقات العدو لأمتنا، وبدلًا من أن تكون الأمة موحدة متماسكة في مواجهة المشروع الصهيوني، نراها اليوم تزداد انقسامًا وتفككًا واستقطابات تضعف القوة العربية والدور العربي. والأخطر من كل هذا، كان الحلم الصهيوني التاريخي الذي دغدغ –وما يزال- مؤسسي الدولة الصهيونية، أن يستيقظوا ذات صباح من نومهم ليجدوا أن “البيئة الاستراتيجية-العربية-المعادية لهم” وقد اختفت، وحلت محلها “بيئة استراتيجية صديقة آمنة لهم”؛ فكانت القيادات الصهيونية التاريخية -مثل بن غوريون وبيغن وديان ومئير وشامير ورابين وغيرهم-، تتمنى دائمًا أن تستيقظ لترى فجرًا جديدًا وبيئة عربية جديدة غير معادية، تستريح فيها “إسرائيل” لمدة أربعين عامًا أو أكثر، ولذلك حرصت تلك الدولة على مواصلة حروبها العدوانية ضد العرب من أجل تكريس روح الهزيمة في وعيهم، وتدجينهم واجبارهم على التأقلم مع الهزيمة لأطول فترة من الزمن.
لقد المؤسسة الصهيونية حرصت على مدى العقود الماضية على الادعاء بأن حروب “إسرائيل” مع العرب هي حروب وجود وبقاء، لذلك كانت “إسرائيل” في كل حروبها هي المبادرة والمعتدية، ولكنها كانت تزعم على الدوام أنها إنما تشن حروب “دفاع عن النفس” أو حروب “حياة أو موت في مواجهة الإرهاب” أو “حروب استمرار لحرب الاستقلال”…وغير ذلك الكثير من الادعاءات..! لم يخطر ببال تلك القيادات على سبيل المثال أن يحقق العرب الأعراب بأيديهم ذلك الحلم الصهيوني؛ فكان الانقلاب الذي قام به السادات على العهد الناصري العروبي المعادي للصهيونية والاستعمار، محطة وركيزة خطيرة جدًا؛ ساهمت في تحول البيئة الاستراتيجية المحيطة إلى بيئة هادئة مدجنة، بل وحامية للوجود الصهيوني، ما أسعد وأراح الدولة الصهيونية من الحروب لأربعين عامًا.
وفي أعقاب تفجر الغضب الشعبي العربي في تونس ومصر، أخذت تلك الدولة تبكي على فقدان حليفها الاستراتيجي في مصر، وسيطرت عليها الهواجس الوجودية مرة أخرى، من أن تتغير البيئة العربية الاستراتيجية إلى بيئة معادية مرة أخرى، بل توقع عدد من كبار الباحثين الإسرائيليين حروبًا تخلع “إسرائيل” من الوجود، إلى أن أخذت “ثورات الربيع العربي” تأكل بعضها، وتتحول إلى صراعات وحروب داخلية وأهلية لا تذر ولا تبقي، بل وأخذت المؤسسة الصهيونية، تعتبر أن ما يجري في سورية-مثلًا- من حرب داخلية، ومن تدخلات عسكرية خارجية، سيشكل نقطة تحول استراتيجي في الصراع، والمسألة لم تعد نظرية أو افتراضية أو إعلامية للاستهلاك العام، بل أخذت تتحول إلى واقع ملموس؛ بفعل هذا التكالب الأمريكي الصهيوني التركي العربي -الأعرابي- على تدمير سوريا، وتجزئتها وتحويلها إلى دويلات طائفية هزيلة ضعيفة، لا تخدم في الحاصل الاستراتيجي سوى الدولة الصهيونية (ولحسن حظ الأمة أن هذا المشروع التدميري التفكيكي ل سوريا قد تحطم). وفي هذه المضامين الاستراتيجية، قال جنرالهم الأسبق موشيه ديان :”إننا/أي إسرائيل/ كالقلب المزروع في هذه المنطقة؛ غير أن الأعضاء الأخرى /ويقصد العرب/ هناك ترفض قبول هذا القلب المزروع، ولذلك لا خيار أمامنا سوى حقن هذا القلب بالمزيد والمزيد من الحقن المنشطة من أجل التغلب على هذا الرفض”، أي العمل على تهيئة المناخات الفلسطينية والعربية لتتأقلم مع القلب المزروع، وثبت ديان حقيقة كبيرة مؤكدًا: “لقد زرعنا انفسنا هنا عن وعي، وفعلنا ذلك مع عِلمنا بأن محيطنا لا يرغب بنا، ولكن الأمر بالنسبة لنا حتمية حياتية، لأن هذا القلب لا يمكنه أن يعيش في أي مكان آخر…” !
فهل يا ترى أخذ حلم ديان يتحقق بفضل الأعراب المطبعين الذين يساهمون اليوم في تحطيم الجدران العربية المناهضة للعدو؛ الأعراب الذين تحولوا إلى أبواق لتسويق الرواية الصهيونية التوراتية على حساب الرواية والحقوق العربية التاريخية في فلسطين؟!
نأمل أن يأني يوم الحساب التاريخي لكل هؤلاء المتواطئين مع العدو… وإن غدًا لناظره قريب.
نواف الزرو – كاتب صحفي وباحث خبير في شؤون الصراع العربي / الصهيوني .