وأنا اطوي ذكرياتُك قِسرا، انتزع ما تعلّق بصفحات سنيني انتزاعاً، لحكاية لم تزل بقاياها موقدة، أوغلتْ مخالبها بأجنحة الروح ونزف الحنين اليها بحورا من الكلمات، اضطربتْ بفعلها مدن تشبهني وخرائط موحشة وأفكار معلقة عند حدود الضياع، انفاس احتضرت لاستنشاق امرأة لا تشبهها أخرى، امرأة من بلور الخيال على سديم يمر بالأكوان كل ألف ألف عام، لتترك اثارها ندوبا على وجه الاحتمالات، ويتوالد الصمت وجوها كالأحزان برائحة الامكنة وطعم المجهول، يوشح ايامي قناديل حلم تهجد في الصباح، وعند المساء نشر تعويذة البوح لتبدأ قيامة روح مصلوبة بالحكايات.
وأنا اطوي ذكرياتُك قِسرا، يقضِمُني الصمتُ بوحشتهِ، أمدّ عُنُقي؛ لأتمسّكَ بخيطٍ واهنٍ، او بقايا خطوات تائهة في الازقة تدغدغُ ركناً من عذاباتِ الروحِ، وألتذُّ به!، علّهُ يُعيدُني لأملٍ ما، أسحبُ جَسَديَّ الممزقُ بشعاعِ عينيكِ لأخترقَ عُنُقَ الألمِ، وأستردّ أنفاسيَ، يُهدهِدُني نسيمُ عشبُك الندي، انطلقُ للبراري ابحثُ عن خلاصٍ، فألوذُ بذكرياتٍ ممنوعٌ أن اكسرَ صمتُها.
أتخبّطُ بأضلعي كالسجينِ، وتسافرُ روحيّ، عبر بواباتِ سكونِ الليلِ، تصرخُ في الطرقاتِ، وعندَ بابِكِ تقفُ مضطربةً، تخشى أن تهمسَ، منعّمةٌ أنتِ ونائمةٌ، تَحلمينَ، اُمسكُ يديكِ، تصعقُني رِعْشَةٌ تُكسّرُ ثلوجيَ، يعرقُ جبيني، تتساقطُ تنهداتي كالمطرِ، أتنفسُ بعمقٍ؛ لأعيدَ ترتيبَ ما تبعثرَ من أجزائي، أهمسُ باختناقٍ بأحرفِ اسمُكِ، تفتحينَ عينيكِ، فأتهشّمُ!.
توقِظُني حباتَ اللؤلؤِ المتساقطةُ من عينيكِ، وشذى المسكَ من جسدُك، اتمسك بدفئك المجنون الذي يحتويني، أشعرُ بانقباضِ تنهداتُك وأنت تلملميني، اُخلّصُ نفسيَ من قبضةِ الموتِ التي اعترتني، أجمعُ قوايَ كي انهض أحاولُ أن انطقَ، لساني كالجبلِ، تومئينَ أن اسكتْ، فأستكينُ بين ذراعيكِ كالطفلِ الوديعِ، لأختزلَ العمرَ بلحظةٍ، أطلق للأمنيات قرابين المطر، وللهواجس نوافذ القدر، وللوساوس عوالم دونما أثر واترُكُ عنانَ الروحِ هيولا تجوب الأمكنة وتنطلقَ ما شاءت في براريها.
أتخطّى مُمسكاً بكفِكِ، تلوذين بي، احوطك من كل جانب، بأضلاعي تتسترين، وبغنجٍ تتحركينَ معي، نعبر مدن الوسواس، تُلاحقُنا العيونَ، تختطفُنا الأصواتَ، تُمسكيني بقوةٍ خوفَ أنْ نتيهَ في زحمةِ الطرقاتِ ونزف الخطى، او نتيه عند مفترق الرؤى، تُخبريني بلذةِ الانتظارِ لآخرِ العمرِ وحصد سنابل قمح اغتسلت بمياه القرابين، ليجمَعُنا سقفَ حلمٍ بسيطٍ، نملئهُ بروحَينا الهائمتَينِ، فاصدّ موجاً، ادفع غيما، السماء مثقلة من حولي، اهشّم ناصية الطرقات، أغرقُ في زحمةِ التفاصيلِ خوفاً عليكِ، أستغرِقُ فيها، فتفلتِينَ من يدي! أقفُ بلا حولٍ ولا قوةٍ مُرعَباً العن التفاصيل وأبحثُ عنكِ في العيونِ والازقة والمستحيل، أهيمُ وحيداً يرافقُني ندمـي كوجهٍ بغيضٍ يأبى أن يفارقُني.
ألملمُ خيوطَ الصبحِ في شعرِ رأسيّ، وتجاعيد ايامي منذُ سنينٍ، ووجهُ الندمِ يُعكّرُ صباحاتي، يستفزُني، فأنفثُ دخانَ احتراقيَ حروفاً متعبةً جمعتُها هنا وهناك، كتبتُها إليها، نثرتُها على الطرقاتِ، منحتها توقّد احتضاري، ورسمتُ خارطةً أودعتُها أسرارَ سكوتيَ، كنوزَ محبتِها، وكثيرَ أشواقٍ دفنتُها، أوصيتُ إن جاءتْ يوماً بعدَ رحيليَ، تسألُ عني، أن تُخبَر عن حلمٍ راودَني، رافقَني، عن سقفٍ بسيطٍ يجمعُنا.
منذُ سنينٍ أجمعُ أوراقيَ، ادوّن تاريخي، ألملم ما تبعثر من انفاسي على جبين الرمل، أحصى هواجسي، وساوسي وأنقّب في ذكرياتيَ، اطارد آثار ظلّ وبقايا من نسمات تشبهك، أتمسكُ بخيطٍ واهنٍ قد يوصلني اليك، وأقفُ في زحمةِ الطرقاتِ، يرافقُني ندميَ، وأبحثُ عن وجهِ ملاكٍ في الأرضْ.
أ. وفي العامري