رغم مرضي الشديد، لكن تجاوزته حباً لا إرغاماً، لأن ما سأكتبه له من الأهمية في وجداني الكثير، ولطالما بلسمت فلسطين الحبيبة جراحاتي، وطيّبت عذاباتي وأوجاعي، فهي القضية الأولى في حياتي، وهي هاجسي وكياني، فلسطين الحبيبة ولّادة، أنجبت فرسان هذا الزمان، رجالها أبطال، وماذا أقول عن الشهداء والأسرى، ورجال الدين الذين ضحى بعضهم بأرواحه في سبيل الأقصى ونصرة القدس الأبية، كل اسم منهم هو قضية مستقلة، فلسطين تجمعنا، حتى وإن فرقنا الموت.
بلغني خبر وفاة الشيخ الفاضل، الأستاذ الدكتور صلاح عبد الفتاح الخالدي، (من فلسطين الحبيبة، جنين 1947 – 2022) خبر حزين وقع على مسامعي، لكن من باب الوفاء لا أستطيع إلا أن أذكر بعضاً من خصاله سواء العلمية أو الشخصية، لإحياء ذكره، خاصة وأنه قضى حياته خادماً للقرأن الكريم، لأن من مثله لا يرحلون إلا جسداً، وأنا شخصياً استفدت من علومه وأملك كتبه جميعها، وليس نسخة واحدة من كل كتاب، بل أكثر من نسخة لكل كتاب، وهذا الشيخ تحديداً لطالما سعدت بقراءة كل إصداراته الثمينة، وكانت البداية مع كتاب “سيد قطب من الميلاد إلى الاستشهاد”، وتوالت القراءات، وكان آخر ما قرأت شرحه لكتاب “في ظلال القرآن” أيضاً وهو تفسير سيد قطب رحمه الله، بشرح الدكتور الخالدي رحمه الله تعالى، وبقناعتي وجدت أنه أكثر من فهم سيد قطب، فهذا الرجل أفنى حياته كلها في الغوص بأثر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أي الأحاديث، رغم اهتمامه بعلوم التفسير والإسرائيليات، ونجد ذلك في نوعية كتبه المتخصصة والأكاديمية المشغولة بعناية منقطعة النظير.
الراحل الدكتور الخالدي تجد في محيّاه وتقاطيعه الهدوء والاتزان، خدوم بطبعه، ودروسه كانت منارة، لكن مع الأسف كما العادة، لم يلتفت له الإعلام بما يستحق، وهذا أمر محزن، خاصة وأنه عالم من أعلام فلسطين الكبار، وسيرة حياته حافلة بالعطاءات، فهو لا يحتاج العبد لله “عبد العزيز” للكلام عنه، لأن مقامه كبير جداً، فموروثه الذي تركه هو من يتكلم عنه، وهنا لا بد من شكر دار القلم التي اهتمت واعتنت بمؤلفاته وكتبه إيما اهتمام، بطبعات فاخرة وجميلة، خاصة وأن كتبه مناهج علمية أكاديمية غاية في الروعة، يستفيد منها كل طالب وباحث في علوم تفسير القرآن الكريم.
مع شديد الأسف، لم يحدث والتقينا، لكن كنت دائم التواصل معه، وكان خير المرشد والمعلم لي، والناصح لي من خلال طرحه لي أهم الكتب، وبحسب قراءتي، الراحل أفضل من تكلم عن سيد قطب وأرخ له بشكل رائع جداً من بعد أخيه السيد محمد قطب، وما من أحد يريد الكتابة عن سيد قطب إلا وسيعود إلى سفر الراحل العظيم “سيد قطب من الميلاد إلى الاستشهاد”، وأذكر أني اقترحت عليه أن يشرح كتاب “في ظلال القرآن” حيث ضحك وقال: (أعمل على هذا المشروع)، وبالفعل أبصر النور من فترة قصيرة، واتصلت مباركاً له على الإصدار الأكثر من رائع، وهذا أمر طبيعي لرجل أفنى حياته للقرآن، وحافظ للقرآن وعاش لأجل القرآن، ومع كتب تفاسير القرآن، فقد شرح كتب كثيرة في علوم القرآن.
بدأ الدكتور الخالدي رحمه الله، بطلب العلم الشرعي بحصوله على بعثة للأزهر سنة 1965، وهناك أخذ الشيخ الثانوية الأزهرية، ثم دخل الكلية الشريعة وتخرج منها سنة 1970، ثم درس الماجستير سنة 1977 في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض، وكانت الرسالة التي قدمها بعنوان: “سيد قطب والتصوير الفني في القرآن” وجاءت في قسمين: القسم الأول عن حياة سيد قطب، والثاني عن التصوير الفني في القرآن.
وحصل الشيخ الراحل على درجة الدكتوراه في التفسير وعلوم القرآن سنة 1984 من الجامعة نفسها، وكانت الرسالة بعنوان: “في ظلال القرآن – دراسة وتقويم”، فهذا المستوى من العلوم قل نظيره في ظروف أهل فلسطين ومعاناتهم بسبب الاحتلال الصهيوني الذي يحاول طمس كل عالم في أي مجال كان.
تتلمذ الراحل على يد كل من الشيخ موسى السيد، أحد علماء فلسطين، الشيخ محمد الغزالي، الشيخ عبد الحليم محمود، ومن مؤلفاته الخالدة، سيد قطب: الشهيد الحي، أمريكا من الداخل بمنظار سيد قطب، تصويبات في فهم بعض الآيات، ثوابت للمسلم المعاصر، الرسول المبلغ، الشخصية اليهودية من خلال القرآن: تاريخ وسمات ومصير، لطائف قرآنية، مفاتيح للتعامل مع القرآن، القصص القرآني عرض وقائع وتحليل أحداث، مدخل إلى ظلال القرآن، أفراح الروح، القرآن ونقض مطاعن الرهبان، صور من جهاد الصحابة، الكليني وتأويلاته الباطنية للآيات القرآنية في كتابه أصول الكافي، وغير ذلك، ولديه تعليقات ثمينة جداً في كتب التفسير، الشيخ صلاح الخالدي، عالم يتمتع بخلق رفيع، تأثر فيه بكتاب الله، وعالم التفسير، تأثر بأخلاق القرآن الكريم، وله باع طويل بالعلم والتفسير، وقد نحى منحى الكتابة عن تفسير الظلال، وشخصية صاحب الظلال، وهو متخصص به، وهذا يعكس شخصية الشيخ صلاح الخالدي الداعية رحمه الله تعالى، وبصفته أحد العلماء الذين يتمتعون بفهم كتاب الله تعالى، والدعوة إلى ما يتضمنه الكتاب الكريم.
لقد كان الشيخ صلاح الخالدي رحمه الله بعلمه وبحثه وجهده، كاشفاً عن كنوز سيد قطب وعن آثاره، فهو هو العالم العامل المخلص.
لن أقول وداعاً لأن أمثال الدكتور الخالدي أحياء بيننا، وفلسطين ولّادة، ستلد الخالدي مراراً وتكراراً، لكن عزائنا أن يتغمده الله تبارك وتعالى بواسع رحمته، فمن له أثر طيب لا يموت، وأتمنى من محبي الراحل، وكل من يقرأ من أعماله أن يدعو له بالرحمة والمغفرة.
عبد العزيز بدر القطان.