في إستمرار سلسلة مقالات الحديث عن مقاصد الشريعة الإسلامية، للتأكيد على نشر ثقافتها وسط عالمنا اليوم، العالم المتغير والمتبدل، وبالتالي نحتاج إلى المقاصد عند تطبيق الشريعة، فلقد بحثنا في المقال السابق دور الإمام الغزالي “حجة الإسلام”، من خلال ذكر مساهماته الدقيقة والمهمة في نظرية المقاصد.
ذكرت أن الإمام الغزالي قام بجهدٍ تأصيلي، من خلال كتابيه “المستصفى، وشفاء الغليل”، وذكرت جهده التطبيقي الكبير وتفصيل المنهج ككل في كتابه “إحياء علوم الدين”، وكأنه محاولة من حجة الإسلام لتطبيق مشروعه الإيماني في عصره (القرن الخامس الهجري)، من خلال الإيمان وتثبيته في حياة الناس ليكون منهجاً لهم، وتطبيق الإيمان تطبيقاً سليماً من خلال فهم الإسلام فهماً دقيقاً، حيث أنه يريد تخليص العقل المسلم من الشوائب التي جاءت نتيجة فهم مغلوط للإسلام، فلكم أن تتخيلوا تلك الحقبة ومقارنتها مع واقع اليوم والمفاهيم المغلوطة لا بل المدسوسة عمداً لتشويه ديننا الحنيف.
الصراع الذي كان سائداً في عصر الإمام الغزالي، من خلال الجدل بينه وبين الفرق الإسلامية الأخرى دفعه إلى إطلاق مشروعه الإسلامي ووضع الحجة المقرونة بالدلائل لضحد كل رواية من شأنها التقليل من الإسلام، فجاء علمه أيضاً لهذه الغاية، وعمد حجة الإسلام أيضاً إلى تخليص العقل من شوائب الثقافة اليونانية، التي دخلت إلى العالم العربي والإسلامي في القرنين الثاني والثالث الهجري، وربما تمكنت من الدخول بعد ذلك من خلال فلاسفة الإسلام الذين يعرفون بإسم “الفلسفة المشّائية” مثل الكندي والفارابي وابن سينا وغيرهم.
ولتوضيح الفلسفة المشّائية فهي: مدرسة فلسفية في اليونان القديمة، استمدوا أفكارهم من مؤسس تلك المدرسة الفيلسوف اليوناني أرسطو، الذي سماه تلاميذه المشّاء، والتي تعني أروقة مدرج الألعاب الرياضية في أثينا، حيث كان أعضاء تلك المدرسة يجتمعون، وهم يتبعون للمنهج العقلي، إنتقلت إلى العالم الإسلامي في عهد الترجمة الإسلامية على يد يعقوب بن إسحق، والفارابي وابن سينا وغيرهم.
الإمام الغزالي حاول أن يقوم بجهد كبير جداً حيث عمل على تنقية الوعي الديني والإسلامي، ولذلك ترى اليوم أولئك المهتمين بالعقل إهتماماً مجرداً يهاجمون الإمام الغزالي لأنه أغلق التفكير أمام التفكير الحر أو ما أسميناه “الحرية العقلية”، التي فهموها بشكل مغلوط، فلو قرأنا الإمام الغزالي قراءةً صحيحة من خلال منظور المقاصد وجهده في هذا المجال، سنجد أنه كان يضع منهجاً ويكشف طريقاً حتى يستطيع من خلاله الإنسان المسلم أن يباشر حياته، حتى أن بعض المفكرين الغربيين من أمثال “ديكارت” إستفاد من جهد الإمام الغزالي في مجال التنظير المتعلق بالمنهج الذي ينبغي أن يطبق في مجال العلوم، وكنت قد ذكرت مقالاَ يوضح هذا الأمر، بعنوان “بين الغزالي وديكارت.. علمني الشك اليقين!”.
وهنا تجدر الإشارة إلى أن المنهج في مجال العلوم، هو غير المنهج في الحياة العملية، فالحياة العملية هي عملية تنقية وتزكية وتطبيق وتفعيل قام بها الإمام الغزالي في محاولته تجديد حياة المسلمين، في ضوء المقاصد الشرعية، وهنا التجديد بمعنى تجديدها من كل ما أصابها خلال القرن الخامس الهجري، والقرون السابقة. وتمثل ذلك التجديد في دراسة شاملة لعلوم الدين ككل في كتاب “إحياء علوم الدين”، فالإحياء هنا بمعنى التجديد وتفعيل القيم الأساسية للإسلام حتى تتحرك في حياة الناس، فليس المقصود بالتجديد هو ترك القديم وأن نأتي بشيء جديد وننسى ماضينا وننظر إلى الغرب أو إلى الشرق، التجديد هنا هو تفعيل الأساسيات واحترام النصوص الشرعية في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، ثم تفعيل القيم الإسلامية العليا لكي تكون جزءاً من سلوكيات الناس، ثم التطبيق الصحيح للشريعة الإسلامية في مجال العبادات وفي مجال المعاملات.
وعندما توجد مشاكل جديدة، تُعالج بإجتهادات جديدة تتناسب وواقع بروزها، لكن بشكل “وقتي” لأنه قد يتغير هذا الجديد، وبالتالي يحتاج المسلمون في عصرٍ قادم أيضاً إلى حركة تجديد أو إلى حركة إجتهادية جديدة. وبالتالي إن ما وجدناه في منهج الإمام الغزالي هو محاولة لإحياء المجتمع وإحياء العلم وإحياء المنهج، وتبين ذلك من أربع دراسات قدمها حجة الإسلام في هذا المجال، يأتي في مقدمتها في الجانب التطبيقي والفعلي والعملي كما أشرنا أعلاه، كتاب “إحياء علوم الدين”.
إن مساهمة الإمام الغزالي ليست فقط في هذا التفعيل الذي أنزل فيه مقاصد الشريعة من إطارها الكلي النظري، إلى أن تجري مجرى الدم في العروق كما يقال، في كل العبادات وفي كل المعاملات، ونبحث عما وراء النص، مثلاً في البيع وفي الشراء وفي الإحتساب وفي الزواج، في الطلاق وفي الصلاة، والصيام والزكاة، فلم يقتصر الأمر على جانب العبادات ولا على جانب المعاملات، وإنما تحرك على كل مباحث الفقه الإسلامي من أجل إحياء المنهج وإيقاظ المجتمع ومن أجل إبعاد العقل عن أي ثقافة مغتربة ورده إلى ثقافة أصيلة يمكنها أن تحقق في حياة الناس الخير والمنفعة والإصلاح الذي يقود إلى خير الدنيا وخير الآخرة.
ومن هنا تأتي أهمية الثورة الفكرية التي قام بها الإمام الغزالي، وأيضاً أهمية الثروة الفكرية التي تركها لنا حجة الإسلام نتغذى منها إلى يومنا هذا وستبقى غذاءاً روحياً وعقلياً وثقافياً وصوفياً للمسلمين جميعاً في كل العصور.
فالمنهج الذي يقود التفكير للوصول إلى الأحكام السليمة والذي يقود المجتمع للتطبيق الصحيح لفهم الدين وقواعده وأحكامه.
د. عبدالعزيز بن بدر القطان