عبد العزيز بدر القطان*
استطاعت الحضارة الإسلامية تغيير وجه الطب حتى يصل إلى ما هو عليه اليوم، فقد ساهم العلماء المسلمون بنقل الطب من الدجل والخرافة إلى تأسيس منهجية علمية فاقت حدود عصرهم، وتحديداً في الفترة بين عامي 750م و1450م حين أصبحت الحواضر الإسلامية مثل بغداد والقاهرة ودمشق وقرطبة منارات يهتدى بها لقرون عديدة.
ففي الوقت الذي كانت فيه أوروبا غارقة في عصور من الظلام والانحطاط، كانت الحضارة العربية القديمة تقدم للبشرية جمعاء أفضل الإنجازات العلمية في عصرها الذهبي، عندما كانت مدن مثل بغداد والقاهرة ودمشق والقيروان وفاس وقرطبة تعج بالعلماء والمخترعين والصنّاع المهرة، الذين قدموا العديد من النظريات العلمية، التي نحيا بها إلى يومنا هذا، وعلى سبيل المثال لا الحصر، في الجراحة وتحديداً قرابة العام 1000 للميلاد نشر عَالم الطب العربي ‘”الزهراوي 1500صفحة يشرح فيها عن أسس وأساليب الجراحة وأدواتها، وقد ظل هذا الكتاب مرجعاً للأوروبيين، فقد كان الزهراوي أول من قام بالعملية القيصرية، والتي ساهمت فيما بعد بنجاح الملايين من حالات الولادة حول العالم، حيث بلغت الجراحة في القرون الوسطى ذروتها على يد أبي القاسم الزهراوي (936 – 1013 م)، الذي ألف كتاب “التصريف لمن عجز عن التأليف”، والذي اهتم فيه بالجراحة وأدواتها، لقد كان الزهراوي رائداً في كثير من العمليات الجراحية، وسباقاً إلى إنجازات علمية وطبية غير مسبوقة، فهو أول من كتب في تشوهات الفم وسقف الحلق، وأول من ربط الأوعية الدموية بخيوط من الحرير لإيقاف النزف، ويذكر له الكثير من الإنجازات، كما يجب ألا ننسى أول مستشفى أسسه أحمد بن طولون (835 – 884 م)، في القاهرة، بالتالي، كل هذه الإنجازات العلمية في تاريخنا لا بد لها أن تشكل الحافز الحقيقي لنا للمضي على درب المعرفة الذي سلكوه أسلافنا.
لقد استطاع الإسلام بسماحة تعاليمه وشريعته التي لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها أن ينقل العرب من طور البداوة والقتال والتّناحر والفرقة إلى طور الحضارة والمدنيّة والعلم والاقتصاد وإلى غير ذلك من الأمور التي جعلت المسلمين يتسيدون العالم لقرون طويلة، وأسّس المسلمون حضارة ما تزال آثارها باقية إلى يوم الناس هذا، واستطاعوا أن يخلّفوا للعالم علماء ما يزال العالم يعيش على آثارهم إلى اليوم، كالخوارزمي وابن الهيثم والبيروني وابن سينا وابن خلدون وابن النفيس وغيرهم ممّن استطاعوا تغيير وجه العالم في وقتهم وإلى اليوم، واستطاع المسلمون بفضل تطوّرهم وتقدّمهم العلمي والاقتصادي والأخلاقي والثّقافي أن يؤسّسوا أوّل جامعة في العالم سابقين بذلك أوروبا بنحو قرنين من الزمن، واختلف الناس في أول جامعة إن كانت بيت الحكمة التي أُنشِئت في بغداد سنة 830م أم جامعة القرويّين التي أُسّست سنة 859م، ثمّ بعدها جاءت جامعة الأزهر سنة 970م، فيما كانت أوّل جامعة في أوروبا هي جامعة سالرنو في صقليّة سنة 1090م، وبعدها جاءت جامعة بادوفا في إيطاليا سنة 1222م.
في المقال السابق، ركزنا على الرياضيات كعلم قديم تطور كثيراً خلال العهد الإسلامي الطويل، وبرع فيه الكثير من العلماء مستفيدين مما تركه الأسلاف، لكن ماذا عن الطب في تلك الحقبة؟
تأثر الطب في العصور الإسلامية الزاهية في بدايته بالطب الإغريقي، وبلغ ذروة التقدم العلمي في عهد الدولة العباسية مع ازدياد وتيرة احتكاك العرب بالأمم الأخرى التي فتحوا بلدانها، وقد استقدم الخلفاء المسلمون أفضل الأطباء مثل جورجيس بن بختيشوع وابنه جبريل، ويوحنا بن ياسويه، كما نشطوا في الترجمة والتأليف، ومع مرور الوقت، اجتهد الأطباء الأوائل في إيجاد سبل العلاج، وكذلك ظهر التخصص في تناول فروع الطب المختلفة، كالطب الجراحي وطب العيون وطب الأطفال وعلم التشريح والطب النفسي، وقد تبع ذلك تطور كبيرفي طرق العلاج وبناء المستشفيات. ويرجع الفضل في كثير من المكتشَفات الطبية الحديثة إلى العديد من أعظم الأطباء في التاريخ، وهم الذين أفرزتهم الحضارة الإسلامية في العصور الوسطى مثل ابن سينا وابن النفيس والزهراوي. وقد كان للطب في العصور الإسلامية تأثير مهم على تطور الطب الحديث عبر الترجمات اللاتينية التي أخذ عنها الغرب وطوروا فيها.
عرف العالم إبان عصور الحضارة الإسلامية ازدهار وتقدم وتطور علوم الطب والصيدلة، فعلى مدى الألف سنة تقريباً كان الطب والصيدلة على مستوى العالم ينطقان بالعربية درساً وممارسة وتطببياً وإنتاجاً بفضل الإنجازات والإسهامات والاختراعات والأبحاث الطبية والصيدلة التي أبدعها علماء وأطباء الحضارة الإسلامية، وذلك في الوقت الذي كانت فيه الكنيسة الغربية تحرم صناعة الطب تحت ذريعة أن المرض عقاب من الله لا ينبغي للإنسان أن يصرفه عمن يستحقه، وهذا الاعتقدا بقي سائداً لدى الغرب حتى القرن الثاني عشر، أما المسلمون فقد بدأوا في القرن التاسع الميلادي يطورون نظامطبي يعتمد على التحليل العلمي، حيث اجتهد الأطباء الأوائل في إيجاد سبل العلاج، والأهم أن الطب والصيدلة لم يقتصران على الرجال قط، بل تقول المعلومات إن النساء أيضاً مارسن الطب، حيث كان هناك طبيبتان من عابلة ابن زهر خدمتا في بلاط الموحدي أبو يوسف يعقوب المنصور في القرن الثاني عشر، هما أم عمر وفاطمة ابنتها، في حين أن أبرز علماء تلك الفترة الرازي وابن سينا، اللذين يعتبران أعظم هؤلاء الأطباء وظلت كتبهم تدرس في المدارس الطبيةالإسلامية لفترات طويلة، فقد كان لابن سينا خصوصاً أثراً عظيماً على الطب في أوروبا في العصور الوسطى.
بطبيعة الحال، إن الإحاطة بمآثر العرب ومنجزاتهم في علمَي الطب والصيدلة أمر شاق جداً لا يتسع لإبرازه هذا المقال الموجز إن جاز التعبير، فقد التزم الأطباء المسلمون بالمنهج التجريبي سواء في التأليف والبحث، وعند التطبيق والممارسة العلمية، ويقصد بالمنهج التجريبي في علم الطب (مجموعة الطرق والأساليب والقواعد، التي اهتدى إليها الأطباء المسلمون والعرب من خلال ممارستهم للمهنة)، فلم يكتفوا بالخبرة العملية، وما ورثوه عن الأوائل، وإنما اعتمدوا على التشريح وعلم وظائف الأعضاء، كما استخدموا أسلوب التشخيص، بالإضافة إلى منهج العلة والمعلول واختبار الأدوية، ومن مجموعة الممارسين الذين اهتموا في المقام الأول بتشخيص المرض وعلاجه؛ معتمدين على المشاهدات والملاحظات، وتأتي الفلسفة عندهم وسيلة لبلوغ هذه الغاية، ويمثل هذه المجموعة أبو بكر الرازي (320 هـ)، الذي كان رئيس البيمارستان ببغداد في عهد الخليفة المعتضد، وآخرون درسوا الطب وكأنه جزء من المعرفة حتى أطلق عليهم اسم الفلاسفة الأطباء، ويمثلهم ابن سينا.
وحظي ابن سينا (أبو علي الحسين بن عبد الله بن الحسن بن علي بن سينا 980)، باهتمام واحترام الأمراء والعلماء والباحثين في الغرب على مر العصور والأزمان بسبب ذكائه وإنجازاته المتعددة التي استفاد منها العالم. وولد في بخارى، وتوفي في همدان، ولقب بـ ” أبو الطب” من قبل الغربيين لانجازاته العظيمة في مجال الطب، وقال عنه المؤرخ البلجيكي جورج ساتون: “إن ابن سينا ظاهرة فكرية عظيمة ربما لا نجد من يعادله في ذكائه ونتاجه الفكري الذي يعد مرجعاً في الفلسفة في القرون الوسطى”، حيث سمحت له الأسرة السامانية الحاكمة في عهد الدولة السامانية في بلاد فارس، باستخدام مكتبتهم الخاصة، والتي كانت أغنى مكتبة في ذلك العصر، بعد أن نجح في معالجة الأمير من مرض عجز أطباء زمانه عن علاجه. وبذلك استفاد كثيراً من كافة الكتب والمراجع العلمية في تلك المكتبة. أكمل طريقه في هذا المضمار وتابعأبحاثه التي انتهت بتأليف كتابين هما “قانون في الطب” وكتاب “الشفاء”، فقد ذاع صيته تبوأ مكانة عالية، بعد أرسطو والفارابي من حيث الأهمية، لقبه المسلمون بـ ” أرسطو الإسلام”، وكان السر وراء تطور فكره وأبحاثه هو أنه كان يدرس ويناقش البحوث بعين الناقد والمحلل، وكانت مقولته المشهورة بأن ” الفلاسفة كسائر الناس، يصيبون أحياناً ويخطئون أحياناً أخرى”. وقيل عنه أن نجاحه وانجازاته أزعجت الكثيرين ممن عاصروه، فاتهموه بالإلحاد.
استطاع ابن سينا أن يرصد مرور كوكب الزهرة عبر دائرة قرص الشمس بالعين المجردة، وهو ما توصل إليه لاحقاً عالم الفلك الانكليزي “جيرميا روكس” في القرن السابع عشر، كما ابتكر جهازاً لرصد إحداثيات النجوم، وعمل في مجال الرصد، وعلم البيئة و ألف عدة كتب في هذا المجال منها: كتاب الأرصاد الكلية، ورسالة الآلة الرصدية والأجرام السماوية، وكتاب كيفية الرصد ومطابقته للعلم الطبيعي، وكتاب إبطال أحكام النجوم، وبلغ مجموع الكتب التي ألفها 200 كتاب في مجالات عديدة، فإضافة إلى الجيولوجيا وعلم الأحياء والفلك، ألف كتباً في الرياضيات وعلوم الطبيعة والطب التي استخدمها العلماء على مدى سبعة قرون، ليس هذا فقط، حيث تجد في مؤلفاته الطبية شرح الأعضاء البشرية والأمراض التي قد يتعرض لها الانسان مثل التهاب السحايا، واليرقان، وحصي المثانة، كما أنه كان أول من أدخل العلاج النفسي إلى عالم الطب وأول من شرح طريقة إعداد حامض الكبريت والكحول، وتفسير الكيمياء واستخلاص الكثير من الأدوية.
من هنا، كان ابن سينا أول من كتب عن الطب في العالم، وقد اتبع نهج أبقراط وجالينوس، واعتبر كتابه “القانون في الطب” مرجعاً رئيسياً لكبرى جامعات الطب في العالم، كما كان متقد الذكاء فتعلم القرآن والأدب وهو ابن عشر سنين، ثم درس العلوم المختلفة ومنها الطب على كبار العلماء أمثال إقليدس والمجسطي، حتى برع فيه واتخذ له نهجاً خاصاً يقوم على التجربة العلمية، أما الفلسفة فهي امتداد لفكر الفارابي الذي أخذ عنه فلسفته الطبيعية وفلسفته الإلهية، وقد خلد العلم ابن سينا في كثير من الصور والتماثيل بمتاحف وجامعات العالم الغربي التي تصور أمير الأطباء جالساً بين تلاميذه، في شبابه، صقل ابن سينا شخصيته وهذّب روحه من خلال اتصاله “بالطاجيك والهندوس والأفغان والتتار والتركمان والعرب واليهود والفرس”، وكان لمسقط رأسه مدينة بخارى (في أوزبكستان حالياً) الفضل أيضاً فيما وصل إليه، لأنها كانت مدينة تعرف بالترحيب “بالعلوم الغريبة”. وعلى هذا النحو، تمكن ابن سينا من تهجين فكره وثقافته، رغم أنه عاش في زمن الأزمات والانقسامات وتصادم التعصب بالعقلانية، حيث عارض ابن سينا الخرافات من خلال التفكير المنطقي، وابتعد عن الابتذال من خلال اختيار أكثر اللغات روحانية وسمواً، فقد كان يمزج بين الفلسفة والطب إذ تعتبر الفلسفة علاجاً للروح بينما لا يمكن الاستغناء عن الطب في حياتنا، وذلك ما تطرق إليه في “كتاب الشفاء”.
وليس من المستغرب أن يكون ابن سينا من أوائل الأطباء الذين أكدوا البعد النفسي الجسمي لبعض الأمراض، ويمكن إسقاط بعض الأفكار في كتابه “القانون في الطب” على عالمنا المعاصر، على غرار أن التطبيق عامل أساسي لتصحيح الأخطاء النظرية، وأهمية النظافة، وتأثير المناخ على الصحة، واعتبار جودة الهواء من عوامل انتقال العدوى، ومن الناحية السياسية كان تشبع ابن سينا بالفلسفة هو الدافع وراء قبوله منصب الوزير، فقد كان مقتنعاً بأن إدارة الدولة يجب أن تكون مدعومة بمعرفة عميقة للإنسان. حيث أنه لا يوجد سوى اختلاف في الدرجة بين إدارة الشؤون السياسية والتحكم في الذات”، ولعل هذا الدرس هو الأكثر أهمية في وقتنا الحالي.
هذه الدروس الخالدة التي نملك، أفدنا بها البشرية جمعاء، لم نبخل بها على أحد، فالطب مهنة إنسانية بالمقام الأول، وعلى جميع الأكاديميات حتى غير المتخصصة، إبراز جانب اكثر إضاءة على العلماء البارزين سواء في الطب أو الصيدلة أو الرياضيات، لأن ما قدموه للبشرية يرقى لأن يتم تخليدهم بأبهى صورهم، وعندما أقرأ وألخص لكم ما وقعت يداي عليه عن عظماء الأمة الإسلامية، لا أستطيع وصف حالة الفرح الكبيرة التي أشعرها، وبكل صدق وتجرد، يجب على كل إنسان الفخر بأنه ابن هذه الأرض الغنّاء التي أنجبت عظماء.
*كاتب ومفكر – الكويت.