أمير البيان.. من يوقظ الإسلام فينا !
محظوظون نحن كعرب ومسلمين بأن نملك إرثاً فكرياً ودينياً وتاريخياً كبيراً، محظوظون أننا شهدنا إبداع الحقب الماضية لنستفيد منها في تحسين واقع اليوم، ومن بينهم رواد في النهضة الإسلامية والفكرية، ومن يذكر اسم شكيب أرسلان (25 ديسمبر/ كانون الأول 1869 – 9 ديسمبر/كانون الأول 1946)، فأنت أمام رجل جمع بين أكثر من ميزة، قلما تتوافر في شخصية عاشت في زمنه، فقد وصف بأنه مؤرخ ونهضوي ومفكر منفتح متعدد الرؤى والمقاربات، وكان رائداً من رواد النهضة الإسلامية التجديدية، والذي كان الإسلام بالنسبة له دين التسامح والوحدة.
حامل لواء الإسلام والعروبة
أمير البيان، الشاعر والكاتب والمفكر والسياسي والمناضل الكبير شكيب أرسلان ابن لبنان، وسر تمكنه من اللغة العربية فكان يعود إلى مدرسة الحكمة في بيروت المشهورة بتعليم أصول اللغة العربية والفرنسية، وأما تمكنه من اللغة التركية والفقه فكان من مدرسة السلطانية التركية، هذا الأمر مهد له للسفر إلى مصر وحضور دروس الإمام والمجدد الكبير محمد عبده (مفكر وعالم دين وفقيه وقاضي وكاتب ومجدد إسلامي مصري، يعد أحد دعاة النهضة والإصلاح في العالم العربي والإسلامي ورموز التجديد في الفقه الإسلامي 1849 – 1905).
فكل التنويريين هم امتداد لمدرسة الإمام محمد عبده) هذه العلاقة توطدت بين الأستاذ والتلميذ فأصبح أرسلان صديقاً مقرباً من الشيخ عبده، ولازمه في مجالسه الخاصة. لقد كان للشيخ محمد عبده الأثر الكبير على أرسلان في صقل تكوينه وتوجهه الفكري.
لم تنتهِ جولة المفكر أرسلان فقط في مصر، بل كانت الآستانة محطة مهمة له، وفيها التقى بالفيلسوف جمال الدين الأفغاني (السيد محمد جمال الدين بن السيد صفتر الحسيني الأفغاني الأسد آبادي، موقظ الشرق، والملقب بالأستاذ، ومن تلامذته الإمام المجدد محمد عبده، أحد أعلام التجديد في عصر النهضة العربية والإسلامية الحديثة، 1838 – 1897) الذي قال عنه: “هنيئاً لأمة تنجب أمثال شكيب أرسلان”.
لكن هناك نقطة مهمة جداً عن المدرسة التي ينتمي إليها أرسلان، من الإمام المجدد محمد عبده وموقظ الشرق الأفغاني، والمفكر والأديب الثعالبي (عبد الملك بن محمد بن إسماعيل أبو منصور الثعالبي. من أئمة اللغة والأدب، 961- 1038)، والأستاذ محمد رشيد رضا، (1865 – 1935)، وعبدالله النديم (عبد الله بن مصباح بن إبراهيم نديم “النديم” الإدريسى الحسني من أدباء مصر وشعرائها وزجاليها. وخطيب الثورة العرابية، 1842- 1896)، هذه المدرسة مبعدة من تاريخنا، لأن هذه المدرسة مشاكسة ومشاغبة وضد الاستعمار وضد الهيمنة الغربية وضد المشروع الامبريالي الصهيوني الاستعماري في المنطقة، وتلاحظ اليوم في الكثير من البلاد العربية تعمل الحكومات على إبعاد هؤلاء وكتبهم الثورية، وبالمناسبة كان كتاب لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم مبد من مكتبات العالم العربي بأمر من حكوماتها للأسباب ذاتها، وواجب علينا إحياء هؤلاء العظماء لإيقاظ الشعوب من غفلتها، ولمنحهم القوة والأمل والاستراتيجية المطلوبة لمجابهة واقع اليوم.
الأمير شكيب أرسلان حمل هم العالم الإسلامي والعربي وطاف بها كل أصقاع الأرض لغاية الدفاع عن حقوق المسلمين والمطالبة بحريتهم، ولعل من أبرز أوجه هذا الدفاع هو محاربته في ليبيا عام 1911 وقال عن ذلك: “إن الدفاع عن طرابلس اليوم هو الدفاع عن الشام ولبنان وفلسطين”، الأمير أرسلان هو المثال الطبيعي والصحي في عصره كإنسان منتمٍ للأمة، فقتاله في ليبيا لشعوره بأنها أرضه، فنحن أبناء أمة واحدة، إن شكيب أرسلان كان يمثل الوحدة الإسلامية التي كانت تمثلها الدولة العثمانية رغم بعض ملاحظاته عليها، هو كان معها، لكن عندما تحولت من العثمانية إلى التركية، بدأ يخط ملاحظاته، فتجد التوازن قائماً بين البينين، فالإنتماء أمر لا يشبه أن يكون الشخص تابعاً سلباً وإيجاباً، ومن ثم تابع جولاته وتنقل بين الجزيرة العربية والدول العربية والإسلامية، ووصل إلى شمال أفريقيا، واللافت في رحلاته تلك أنه كان محفزاً للهمم ومحارباً للتقاعس والتقهقر، ففي المغرب العربي على سبيل المثال تم طرد المستعمر من طنجة وسائر المغرب وغيرها من الدول العربية.
سياسي محنّك
ليس هذا فقط، الأمير أرسلان استشرف في وقت مبكر عن الأطماع الصهيونية في فلسطين باكراً، وعمل بالتالي على توعية العرب وتنبيههم من خطورة هذا المشروع الذي كان يُحاك للمنطقة، أيضاً من مآثره الخالدة في الذاكرة هو بث روح القومية العربية الإسلامية، وهو الداعي إلى حلف عربي موحد، بحسب بيانه في عام 1923 الموجه للأمة العربية في هذا الخصوص، ووزع من هذا البيان آلاف النسخ، حيث تضمن البيان مثلاً مبادئ تأسيس هذا الحلف، ومن هذه المبادئ أخرج الكثير اليوم بما يُعرف اليوم بميثاق جامعة الدول العربية.
وكان المفكر أرسلان عضواً في كثير من المنتديات العربية والإسلامية وحتى الدولية، وشارك في مؤتمرات كثيرة جداً حول العالم العربي وهمومه وقضاياه، وأصدر العديد من الصحف والمجلات، في عددٍ من الدول سواء في العالم العربي أو الغربي مثل ألمانيا، وسويسرا التي حملت اسم “الأمة العربية”، ومن اسمها تبين أن الأمير كان حاملاً للواء التحرر إلى جانب لواء التحديث والنهضة، وهو المسلم المتعبد والخاشع في طقوسه العبادية التي كان يمارسها على نهج أهل السنة والجماعة، وبذات الوقت كان فخوراً بإنتمائه إلى طائفة الموحدين الدروز.
كنوزٌ معرفية
بمجرد قراءة عناوين كتب شكيب أرسلان، يشعر القارئ مباشرةً أن الكتاب لا يمثل مرحلة بل يمثل روح واستراتيجية وخطة، فالمثقف الحقيقي هو من يوجد الحلول لأمته من خلال مؤلفاته، وبالتالي التنوع الثقافي في المدرسة التنويرية التي ينتمي إليها الأمير والتي كان مؤسسها، موقظ الشرق السيد جمال الدين الأفغاني الحسيني، والإمام الكبير والمجدد محمد عبده وتلميذه الشيخ محمد رشيد رضا، وأيضاً من العصر الحديث نسبياً، إحتكاك الأمير بمدرسة الفيلسوف والمفكر القومي أنطون سعاده (1904 – 1949)، الجامع بينهم أنهم امتداد لبعضهم كل في تخصصه ومعرفته، فهذا ما استطاع أن يحصل عليه أرسلان، فلم يكن ينقد دون حل.
للأمير شكيب أرسلان مؤلفات كثيرة سواء من تأليفه أو تلك التي قام بترجمتها، أو تلك المؤلفات المتنوعة التي ترك تعليقه عليها، وكأنها تركت لنا من آبائنا وأجدادنا، من هذه الكتب، كتابه الشهير عن الأندلس، حمل عنوان “الحلل السندسية في الأخبار والآثار الأندلسية”، حيث كتبه أثناء إقامته لفترة في الأندلس “إسبانيا”، وأيضاً له مؤلف الباكورة وهو أول ديوان شعري للأمير، وأيضاً كتاب “شوقي: صداقة أربعين سنة”، وهو طبعاً عن أمير الشعراء أحمد شوقي الذي تعرف عليه في باريس وجمعتهما بعد هذا اللقاء صداقة قوية جداً، أيضاً له كتاب “محاسن المساعي في مناقب الإمام أبي عمرو الأوزاعي”، والكتاب الكبير “زمن العروبة الأبتر”، ومما جاء فيه (أجمعت هذه الأمة -إلا العميان في بصائرهم- على أن سياسة الكماليين، من أولها إلى آخرها؛ سياسة هدم للإسلام من أركانه)، وللأمير أيضاً تعليقات على تاريخ المفكر وعالم الإجتماع ابن خلدون، وعن الوحدة العربية وغير ذلك، سواء المطبوعة، فضلاً عن تلك المذكرات الغنية للأمير، وآلاف الرسائل التي كانت ترده من مختلف أصقاع العالم العربي والغربي.
ترقّي وتردّي الإسلام
ولعل من أهم أعمال المفكر الكبير أرسلان، هو كتابه الشهير الذي حاول فيه الإجابة عن النهضة حول سؤال لماذا تأخر المسلمون ولماذا تقدم غيرهم؟ وهل هناك تعارض بين التمسك بالإسلام والنهوض والتقدم أم لا؟ وما هي الأدبيات والوسائل والمنهجية التي اعتمدها المفكر في كتابه هذا؟
لقد بدأ أرسلان في وضع لمسات كتابه من خلال التحقيق العميق من خلال شرح الأسباب الجوهرية لانحطاط الإسلام وردها إلى جذورها الأساسية، أيضاً اعتمد في كتابه المقارنات التي يجريها بين مسلمي اليوم والأمس، وبالتالي إظهار الفروق بينهما، واعتمد أيضاً إجراءه للعديد من المقارنات بين تجارب الأمم المختلفة وبين التجربة الإسلامية التاريخية في مراحلها المتعددة، ونقب من خلال هذه المقارنات عن أوجه الاختلاف والشبه بين هذه التجارب من خلال سرد للعديد من الأمثلة التقريبية، كما سلط الأمير في كتابه الضوء على الأمور التي يعيبها الغرب على المسلمين، من خلال المحاولة بالقول على أنها ليست حكراً فقط على المسلمين بل هي موجودة أيضاً عند غيرهم وبالتالي هي ليست أسباب أساسية للإنحطاط.
روح الكتاب وإبداع الأمير فيه، كان بإكثاره من الآيات القرآنية التي جمّلت الكتاب وأضفت في عمقه الروح الإسلامية، وذلك لتأييد وجهات نظره ودعمها، بما يقطع الطريق على المشككين أياً كانوا، مضيفاً أيضاً الكثير من المراجع التاريخية والكتب المعتبرة والمقالات الصحفية ذات الصلة.
حكاية ملهمة
وقصة كتاب لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم؟ تعود إلى العام 1929، عندما كتب شخص يسمى محمد بسيوني عمران من إندونيسيا من أصول مصرية، رسالة وصلت إلى صندوق بريد مجلة المنارة الإسلامية الشهيرة والصادرة من القاهرة، وكان الشيخ محمد رشيد رضا ابن القلمون السوري، هو مؤسس ومدير هذه المجلة التي أصبحت بعد ذلك “تفسير المنارة، التفسير القرآني العظيم”، احتوت هذه الرسالة على سؤالين كتبهما بسيوني إلى المجلة، ما أسباب ضعف وانحطاط المسلمين في الأمور الدينية والدنيوية معاً؟ ويضيف بسيوني “صرنا أذلاء لا حول لنا ولا قوة وهذا مخالف ما قاله الله تبارك وتعالى في كتابه العزيز “ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين”، فيسأل بسيوني أين عزة المؤمنين اليوم؟ ويسأل أيضاً، ما الأسباب التي ارتقى فيها الأوروبيون والأمريكيون واليابانيون ارتقاءً هائلاً؟ وهل ممكن أن يلحق بهم المسلمون إذا اتبعوا نفس الخطوات والأسباب مع المحافظة على دينهم أم لا؟
الشيخ رشيد رضا سلم هذه الرسالة إلى المفكر أرسلان مقترحاً عليه كتابة رد مفصل كأن يكون مقالاً أو مقالاً متعدد الأجزاء، ونشره في المجلة، وفعلا كتب أرسلان مقالاً مفصل حمل عنوان “لماذا تأخر المسلمون ولماذا تقدم غيرهم؟” ومن ثم تحول هذا العنوان ليكون عنواناً لكتاب الأمير عقب ذلك، في العام 1930.
الإيمان الحقيقي
وأما الفكرة الأساسية التي أراد أرسلان الوصول إليها هي أن التأخر الذي وقع على الأمة الإسلامية عموماً وعلى الأمة العربية بشكلٍ خاص، ليس سببه الدين الإسلامي بحد ذاته بل السبب هو حال المسلمين الذين تركوا العمل بالدين وجوهره، الأمير أرسلان كتب كتابه هذا من وحي الدين الذي يعتنقه، لكن وبذات الوقت كان منفتحاً في طرح آرائه بشكلٍ موضوعي، من خلال الإطلاع على العلم الحديث وتجارب الأمم المتقدمة.
ففكرة الكتاب تتمحور حول فقد المسلمين للإيمان الحقيقي والصادق كما أسلافهم، وتحول الدين عندهم إلى دين يطبقون طقوسه المطلوبة لا أكثر ولا أقل، يقول أرسلان في هذا الخصوص: “فلم يتبقَّ من الإيمان إلا اسمه، ومن الإسلام إلا رسمه، ومن القرآن إلا الترنّم به، دون العمل بأوامره ونواهيه، فلقد غيّر المسلمون ما بأنفسهم، فغيّر الله وضعهم”، ويتسائل أرسلان: “كيف تريد هذه الأمة أن ينصرها الله بالعمل، أن ينصرها الله بلا جهد”، وبالتالي هذا يكون مخالفاً لما أمرنا الله تبارك وتعالى به، إعمل وتوكل”، فلا يوجد أي نجاح أو ربح أو نصر بدون جهد وتعب وسعي إليه ونحوه، وبذات الوقت لا توجد عزة بدون استحقاق الذي هو أيضاً يكون من خلال السعي والعمل، وأمة العرب والمسلمين اليوم كما رآها أرسلان أمة متقاعسة ومتراخية لا تبذل لا المال ولا النفس في سبيل عزتها.
فالشعوب الغربية في تلك الحقبة خاضت غمار الحرب العالمية الأولى وقدمت الضحايا الكثيرين لتحقيق غايتها، فهل بذل أي من المسلمين اليوم مثل ذلك في سبيل نصرة أوطانهم؟ يقول أرسلان في كتابه: “ليس في المسلمين اليوم من يفعل ذلك لا فرداً ولا أقواماً، لا بل نرى في المسلمين من لا ينفق حتى الزكاة الشرعية، بل أصبح المسلمون يخذل بعضهم بعضاً وحتى أن هناك فئات وجماعات وطوائف من العرب والمسلمين وقفت في أماكن كثيرة مع المعسكر الإفرنجي ضد إخوانهم المسلمين”، فهذا أهم أسباب الانحطاط الذي تعاني منه الأمة اليوم من خلال الابتعاد عن روحية الدين وعن العمل بمنهجية الدين وبالتالي تفكك وحدة المسلمين وسقوطهم في مستنقع الضعف والهوان.
العلم والجهل
يقول أرسلان: “الجهل المركب الدغمائي الذي عادةً ما يترافق مع نزعة استعلائية فوقية”، وهو من أحد الأسباب الجوهرية لانحطاط أمة المسلمين، ولكن الأخطر من هذا وذاك بحسب أرسلان هم فقهاء السلطان الذين خصصوا الدين للأمراء والحكّام لا لكل الشعوب، يفتون لهم بما يريدون وليس بما أمر الله سبحانه وتعالى.
إن البقاء على الدين والتمسك بالإسلام ليس عائقاً أمام تحصيل العلم والتطور لقيام أي نهضة بحسب رأي المفكر أرسلان، فمثلاً مسألة التراث الإسلامي وتجديده، أو ما أسماه أرسلان ضياع الإسلام بين تيارين الجاحدين والجامدين، فمن أكبر عوامل انحطاط المسلمين، الجمود على القديم أي عدم تجديده بما يتناسب وواقع اليوم، وهذا ما شرحناه مطولاً في فقه مقاصد الشريعة الإسلامية في العبادات والمعاملات، وتطويرها وواقع كل زمان ومكان مع الحفاظ على تعاليم الله تبارك وتعالى، أو تجديد كل القديم دون النظر بما يجب الإبقاء عليه، وفي كلا الحالتين هذا خطأ كبير.
وبالتالي كيف تطور الغرب مع المحافظة على دينهم؟ ومن ربط فكرة تطور المسلمين بالابتعاد عن الله تبارك وتعالى؟ فهنا الخطأ الكبير، لأن ذلك انفصال عن القيم والتاريخ والدين وكل شيء.
يقول أرسلان: “المسلم الجامد ليس بأقل ضرراً من المسلم الجاحد، فالجامد هو سبب الفقر الذي ابتلي به المسلمون لأنه جعل الإسلام دين آخرة فقط، فالجامد هو الذي أشعل الحرب على العلوم الطبيعية والرياضية والفلسفية وفنونها وصناعتها، والعلوم الطبيعية هي العلوم الباحثة في الأرض، والأرض لا تخرج أفلاذها إلا لمن بحث فيها، فإن كنا طوال العمر لا نتكلم إلا فيما هو عائد للآخرة، ستقول لنا الأرض إذن اذهبوا تواً إلى الآخرة، ليس لكم نصيباً مني”، فهذا حال الأمة اليوم، يحيلون مل نقصٍ موجود على الأقدار.. بلا أي عمل وسعي.
المدنية في الإسلام
إن انهيار المدنية الإسلامية لم يكن يوماً بسبب الدين الذي هو في الأساس والأصل من بنى هذه المدنية والحضارة الإسلامية شاهدة على ذلك، وما حدث هو بفعل عوامل لا تمت للدين والإسلام بأية صلة، بل الواقع مرتبط بحال المسلمين وابتعادهم عن الإيمان الحقيقي والقرآن الكريم وتعاليمه وانغماس الأنظمة الإسلامية والعربية بالمصالح الشخصية لا العامة دينياً ودنيوياً، وهذا بطبيعة الحال يؤدي للابتعاد عن نصرة الإسلام وكل قيمه التي نعرفها، وحتى قيادة المجتمعات ومواكبة التطور من خلال الحث على العلم والأبحاث وما شابه ذلك.
فالأديان ليست معياراً لا للتقدم ولا للتخلف، فكلاهما له عوامله وأسبابه، التي تراكمت عبر الزمن وأثرت على الدين نفسه، وعلى عقائده ومعاييره الأخلاقية، يقول الأمير أرسلان: “إن إدخال الأديان في هذا المعترك، وجعلها وحدها هي معيار الترقّي والتردّي، ليس من الإنصاف في شيء”، فالإسلام لا جدال فيه أنه كان سبب نهضة العرب، وهذا أجمع عليه المؤرخون شرقاً وغرباً، لكنه لم يكن سبب انحطاطهم أيضاً، بل السبب هو في تردّي المسلمين وفي إنهم اكتفوا في آخر الأمر من الإسلام وحولوه إلى اسم فقط، بعكس المسلمين الأوائل الذين كانوا مبهورين به، وهو لديهم اسم وفعل.
أخيراً، إن الدين الإنساني، ليس سبباً مباشراً في تخلف الإنسان، بل الإنسان هو المسؤول عن ترقّي أو تردي واقع أمته ودينه، ما يمنع الأمة اليوم هو عدم لحاقها بركب العلم الحديث والإهمال لكل العلوم الحديثة، ما يمنعنا هو عدم تنظيم أنفسنا بما ينسجم مع العالم المتجدد من حولنا، ما يمنعنا ظلمنا لبعضنا البعض والسماح للأجنبي وغيره باستباحة بلادنا، وخيانة بعضنا، كل هذا الأمور جعلت من العقل المبدع يتراجع وأخذت الأمة في غفلةٍ لا تزال فيها حتى اليوم.
إن لمعان نجاح أمير البيان جاء في طريقة فهمه في وقت مبكر للعلاقة بين العروبة والإسلام، وكان من أوائل من حذروا من فكرة التباس العلاقة بين المفهومين، وحذَّر من مغبة التورط في تغليب أحد الطرفين على الآخر، إذ رأى أن الإسلام والعروبة علاقتان مرتبطتان عضوياً، حيث يحتل كل طرف منهما مكانة مهمة في مقومات هويتنا العربية الإسلامية.
وكما بدأ كبيراً، وبعد رحلات وجولات وصولات مكوكية عاد الأمير شكيب أرسلان إلى لبنان في العام 1946 ليكون هذا العام هو نهاية الرحلة الدنيوية للمفكر والمناضل الكبير ويختم مسيرته بما أبدع فيها وما ترك لنا من موروث حضاري كبير جداً. حيث شيّع إلى مسقط رأسه في موكب حاشد تقدمه رئيس الجمهورية اللبناني الأسبق الشيخ بشارة الخوري وصلّي عليه في المسجد العربي في بيروت.
د. عبدالعزيز بن بدر القطان