تشكل الأبحاث العلمية التي تستهدف مسارات المعرفة والإنتاج المختلفة السبيل الأمثل لصناعة المستقبل، إذ إن البحث العلمي في عالم اليوم هو الذي يمهد الطريق إلى صياغة الأهداف والرؤى الاستراتيجية في أي قطاع كان من قطاعات الحياة، إذ لا يمكن الحديث عن تطوير الصناعة مثلا أو الثقافة أو أي مجال، بعيدا عن إجراء بحوث معمقة ومعرفية ذات وعي حقيقي بالراهن ورغبة في تلمس الأفق الجديد.
عملية البحث العلمي في كل الأحوال لا يقوم بها طرف معين أو واحد فهي موضوع تشاركي، يعمل عليه العديد من الأطراف من الباحثين أنفسهم إلى المؤسسات الأكاديمية والبحثية ومراكز الدراسات، إلى الجهات الحكومية الداعمة والممولة بالإضافة إلى شركات القطاع الخاص التي تشكل مركزا أساسيا في فكر البحث العلمي الحديث في كونها توفر صمام الأمان التمويلي، فأغلب الدول اليوم باتت تركز على هذا القطاع في قيادة دفة البحث وتحريكه والتجريب عليه للوصول إلى الأهداف المثلى.
في هذا الإطار يمكن الإشارة إلى برنامج مشاريع البحوث الاستراتيجية الذي أعلنت عن تدشينه وزارة التعليم العالي والبحث العلمي والابتكار، وهو عبارة عن برنامج بحثي مُوجّه لمعالجة التحديات البحثية ذات الأولوية الوطنية في المؤسسات الحكومية، وتعتمد آلية العمل فيه على مبدأ الشراكة، ومن المؤمل أن تساهم مخرجات هذا البرنامج في المساهمة الفاعلة لبناء اقتصاد قوي مبني على المعرفة والأدلة العلمية.
يبقى التأكيد هنا على هاتين المفردتين المعرفة والعلم، كبوصلتين جوهرتين في مجمل حركة الفكر الإنساني الحديث في كل القطاعات، وفي مسارات الحياة جميعا، من سياسة إلى علوم اقتصادية، إلى ثقافة ومؤسسات اجتماعية الخ… إذ لا يمكن أن نحقق أي قفزة نوعية دون تعضيد هذين الجانبين عبر أداء فاعل ومنصف بحق المعرفة المطلوبة، والمساءلة الحقيقية للواقع ورهاناته في سبيل الحياة الأفضل.
ثمة العديد من الأهداف التي يجب الإشارة إليها هنا في هذا البرنامج، وهي مسائل مستمرة من حيث الحاجة إليها والتمسك بها، من الأولويات الوطنية، وبناء التنافس البحثي الذي يُوجّد التميز والإفادة والتأثير، كذلك تعزيز الشراكة بين منظومات وجهات صناعة البحث العلمي التي سبق التعرض لها من مؤسسات حكومية وأكاديمية وقطاع خاص وأفراد أو جماعات بحثية.
وإذا كانت الاشتراطات التمويلية تشكل أحد التحديات فالبرنامج يتيح توفير التمويل بنسبة تصل إلى 50 بالمائة كحد أقصى وبسقف 50 ألف ريال عماني، وهذا جانب مهم، في حين إن باقي الشركاء يقومون بتغطية المتبقي، بيد أن البحوث التي تخضع للتمويل لابد أنها مرهونة لمعايير صارمة في الارتباط بالتحديات والفرص المستقبلية التي يمكن أن تنتج عنها.
ما يبقى التذكير به أخيرا أن عملية بناء المستقبل عبر تعزيز البحث العلمي، ليست بالطريق السهل أو الهين، وأن النتائج الكبيرة تقوم على مدى الالتزام الفعلي بصياغة الأهداف وإيجاد التأثير الحقيقي في المجتمعات والقطاعات المستهدفة، ولا شك أن أي عمل يقوم على دقة وصرامة ومعايير علمية واضحة سوف يأتي ثمرته، ويحقق العديد من المستهدفات ويوجد الفرص المنشودة ما يخدم صناع القرار والمجتمع عامة.