أتقدم بأحر التعازي لذوي المغفور لها بإذن الله تبارك وتعالى، المرحومة الشيخة تناظر محمد مصطفى النجولي أقدم قارئة ومحفظة، عن عمر يناهز 97 عاماً، والتي أخذت القرآن عن 3 مشايخ بالقراءات الـ7 بطريق الشاطبية وعلمته لأجيال متعاقبة، وهي الحافظة المعلمة المتقنة صاحبة السند المتصل لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
ولدت الشيخة تناظر عام 1924 بقرية الناصرية التابعة لمركز سمنود محافظة الغربية في مصر، بدأت الشيخة الحفظ مع الشيخ عبد اللطيف أبو صالح لكنه كان بدون تجويد، ثم ذهبت للشيخ محمد أبو حلاوة وتعلمت التجويد على يديه ومكثت عنده 15 سنة، وقرأت عليه القراءات السبع إلى سورة يونس، ثم ذهبت للشيخ سيد عبد الجواد وقرأت عليه القراءات السبع من طريق الشاطبية.
ومتن الشاطبية هو (حرز الأماني ووجه التهاني في القراءات السبع هي منظومة للإمام القاسم بن فيرة بن خلف الشاطبي الرعيني، واسمها الأصلي هو حرز الأماني ووجه التهاني ولكنها اشتهرت بالشاطبية نسبة لناظمها. بلغ عدد أبياتها 1173 بيتاً، نظم فيها الشاطبي القراءات السبع المتواترة عن الأئمة نافع وابن كثير وأبي عمرو وابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي، والشاطبية هي من أوائل القصائد التي نظمت في علم القراءات إن لم تكن أولها على الإطلاق، وفضلاً عن أنها حوت القراءات السبع المتواترة، فهي تعتبر من عيون الشعر بما اشتملت عليه من عذوبة الألفاظ ورصانة الأسلوب وجودة السبك وحسن الديباجة وجمال المطلع والمقطع وروعة المعنى وسمو التوجيه وبديع الحكم وحسن الإرشاد فهي بحق كما قال العلامة ابن الجزري).
الراحلة المقرئة الزاهدة البصيرة بقلبها، هي أحد اعلام القرآن في مصر الشيخة تناظر محمد مصطفى النجولي، كانت مبصرة في صغرها ثم أصيبت بالحصبة ففقدت بصرها، تجلس منذ سبعين سنة يُعرض عليها القرآن فتصحح وتجيز بالقراءات العشر. قصدها طلبة العلم من مصر وخارجها، وكان بيتها مفتوحاً لأهل القراءات، وهي من طلاب الشيخ: السيد بن عبدالعزيز عبدالجواد السمنودي، شيخ العلامة إبراهيم شحاتة السمنودي، عن حياتها يمكن القول:
عرفوا قدر الدنيا فما أشغلتهم.. وعرفوا قدر الآخرة فكانت حياتهم، مجهولون بالأرض.. مبجلون في الملأ الأعلى.. الراحلة مستحضرة للقرآن استحضاراً جيداً، فتحت بيتها للقراءة والطلاب وغرفتها لا تتجاوز مساحتها مترين في مترين، كانت تفترش الأرض وتجلس على الحصير وتستمع لمن يقرأ عليها بدون ملل.
لا أبالغ إن قلت أن الراحلة والمرحومة بإذن الله أنها كانت معجزة عاشت سنين حياتها مع القرآن الكريم، يحق لها أن تكون النجمة الأولى في سماء العالمين العربي والإسلامي، نجمة في سماء الدعوة ونجمة من نجوم القرآن الكريم إن صح التعبير، فمن ينظر إلى منزلها وعلى بساطته إلا أنه مشع بنور الله تبارك وتعالى ونور القرآن الكريم الذي يحوله في عين المؤمن إلى أحد القصور الفارهة لأن البركة تحيط به، وأمدها الله لقرابة قرن من الزمان لأن تعيش ببركة الأسانيد والشاطبية والقرآن الكريم، فكم تشبه السيدة العظيمة رابعة العدوية الذي كان بيتها مفتوح لكل الضيوف في الله (تكنى بأم الخير، عابدة مسلمة تاريخية وإحدى الشخصيات المشهورة في عالم التصوف الإسلامي، وتعتبر مؤسسة أحد مذاهب التصوف الإسلامي وهو مذهب الحب الإلهي، 713 م – 801 م البصرة – العراق).
الراحلة من أهل القرآن الذين هم خاصة الله تبارك وتعالى، وهي من خواص الله تبارك وتعالى، هي خسارة لأهلها ومحبيها وخسارة للعالمين العربي والإسلامي، ففي عالمنا يوجد الكثير من العلماء والقرّاء لا أحد يسمع بهم، يعيشون ويرحلون كالغرباء، لكنهم أغنياء عند الله تعالى، بيوتهم على بساطتها عظيمة بنور الإيمان، الراحلة تناظر كانت غنية بحب الناس لها، وكانت سلطانة بحفظها القرآن الكريم وبإسنادها إلى نبي الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم، لقد كانت كالجوهرة والدرّة النفيسة، فكانت مقصد طلبة العلم لتصحيح تلاوتهم للقرآن الكريم وتصحيح التجويد لهم وتقدم لهم الأسانيد، فكل من تتلمذ على يدها أخذ منها إسناد.
وفي العام 2009 كانت أمنيتي الوحيدة أن أزورها، لكن لم تسمح لي الظروف حينها، على أن أكرر محاولتي في أعوام أخرى، لكن لم أوفق في ذلك، فزيارة هكذا سيدة لهي بركة، فهي ليست ممن يريدون تحصيل مكاسب أو شهرة فهي مثال المرأة البسيطة المتواضعة المسلمة والمؤمنة بحق، لا تجد معلومات كثيرة عنها، ولكم تذكرني بالسيدة نفيسة في حياتها (نفيسة بنت الحسن من سيدات أهل البيت، اشتهرت بالعبادة والزهد، 762 م – 824 م).
خسارة أن نفقد الأعزاء، لكن هذه السيدة وكل أهل الله تبارك وتعالى يجب إبرازهم إعلامياً، ليكون قدوة للأجيال الحالية واللاحقة، عاشوا من أجل القرآن الكريم وغادرونا من أجله، لكن عزائنا أنهم بإذنه تعالى من أهل الظفر بالجنة، رحم الله الراحلة وإنا لله وإنا إليه لراجعون.
رحم الله الشيخة تناظر وأسكنها فسيح جناته، وألهم ذويها ومحبيها الصبر والسلوان.
د. عبدالعزيز بن بدر القطان