بعضهم كتب فأنصف، والبعض الأكثر غرّ الناس ودسّ الباطل، من خلال أخذهم لغة الشرق وإتقانها، ودراستهم آثار الشرق وما كان عليه الشرق من دين وهُدى حتى يخرجوهم عن دينهم، وحتى يشككوهم في دينهم، وحتى يدعوهم إلى الباطل، موضوع ضخم وكبير سنحاول الإضاءة عليه قدر المستطاع، لتبيان الخيط الأبيض من الأسود فيما يتعلق بالدين الإسلامي وتاريخ القرآن، والبداية مع مفهوم الاستشراق.
أولاً، مفهوم الاستشراق
إن مفهوم الاستشراق جاء من كلمة شرق، وكل من درس الشرق فقد استشرق خاصة من الغربيين، وتحول هذا العلم إلى مدرسة وأصبح يُعرف بإسم مدرسة الاستشراق، ولهذا نجد تحولاً من دراسة الشرق عموماً إلى دراسة الشرق الإسلامي على وجه الخصوص، وهذا يشمل دراسة التاريخ والعلوم الإسلامية واللغة والشعوب، وكانت البداية منذ ظهور الإسلام بحسب رأي البعض، فيما اتجه رأي آخر للقول أن دراسة الشرق الإسلامي بدأ بعد الحروب الصليبية التي اجتاحت العالم الإسلامي، ورأي آخر اعتبر أن البداية كانت قبل أربعة قرون، في فترة احتكاك المسلمين بالأندلس والترجمات التي حدثت آنذاك من ترجمة نسخ للقرآن الكريم والكتب الفقهية وكتب الحديث وما إلى ذلك ووصولها إلى البلاد الأوروبية، ليكون النشاط الفعلي للاستشراق عملياً في القرنين الماضيين (19 – 20).
فلقد قال المستشرقون أن غايتهم من دراسة العالمين العربي والإسلامي، هي غاية علمية بحتة، بحسب زعمهم، لكن في واقع الحال، تبين أن للمستشرقين أهدافاً كثيرة غير المزاعم التي يروجونها، منها الأهداف الدينية، بسبب اختلاف العقيدة، ومنها ما هو ذا دافع اقتصادي بدأ يبرز مع وجود ثروات طبيعية كثيرة في الشرق إضافة إلى الموقع الجغرافي المهم، ولوضع اليد عليه لا بد من دراسته، والبعض ذهب إلى أنها تمهيد لنشاط استعماري بدأ مع ضعف الدولة العثمانية وضعف العالم الإسلامي، وتوالي الأحداث ما بعد سقوط الدولة العثمانية التي تصب في هذا الإطار، وبطبيعة الحال نتذكر جميعاً دور “الجواسيس” في تلك الحقبة والتي شرحتها بإسهاب في مقال لي بعنوان (الإستعمار واحد.. من لورنس العرب إلى كوشنر).
إذاً، دوافع الاستشراق، إما تكون دينية أو اقتصادية أو سياسية، إضافة إلى دافع يُعتبر هو العمل الدراسي الحقيقي، حيث أن بعض المستشرقين درس العلوم الإسلامية لأجل الدراسة والبحث وليس لدوافع أو غايات أخرى، لكنهم ليسوا إلا قلة قليلة ويكادون غير مرئيين أمام أصحاب الدوافع والأهداف الكبيرة والعريضة الأخرى، التي تدفعهم إلى دراسة العلوم الإسلامية.
والجدير بالذكر، أن أصحاب القرار السياسي في الدول الغربية، تجد في إداراتهم متخصصين بشؤون الشرق الأوسط والأدنى والأقصى ومتخصصين بالعلوم الإسلامية ولغات الشرق عموماً، مثل (برنار هنري ليفي والذي هو كاتب ومفكر وفيلسوف فرنسي وعرّاب الربيع العربي)، و(برنارد لويس (1916 – 2018) من مواليد لندن ببريطانيا. هو أستاذ فخري بريطاني-أمريكي لدراسات الشرق الأوسط في جامعة برنستون. ومتخصص في تاريخ الإسلام والتفاعل بين الإسلام والغرب وتشتهر خصوصا أعماله حول تاريخ الدولة العثمانية، هو أحد أهم علماء الشرق الأوسط الغربيين التي طالما ما سعى صناع السياسة من المحافظين الجدد مثل إدارة الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش إلى الحصول على استشارتهم، ولد من أسرة يهودية من الطبقة الوسطى في لندن. اجتذبته اللغات والتاريخ منذ سن مبكرة، اكتشف عندما كان شابا اهتمامه باللغة العبرية ثم انتقل إلى دراسة الآرامية والعربية، ثم بعد ذلك اللاتينية واليونانية والفارسية والتركية).
وبالتالي، على كل مسلم خاصة من طلاب العلم، إن لم يكن لهم باع طويل وراسخ وثابت من الإيمان، والتمكن من العقيدة الإسلامية، ومن العلوم الإسلامية، عليه ألا يتسرع بقراءة كتب المستشرقين، لجهة بناء موقف سواء كان عقدي أو علمي، أو لجهة التأثر بأفكار دون التيقن من صدقيتها وحقيقتها، لكي لا تشوش على التحصيل الإيماني بحكم قلة الخبرة أو صغر السن، وما إلى ذلك، باختصار أي للمبتدئين منهم، أما أصحاب التخصص سيقرأ ويعرف كيفية تفنيد الحقيقة من الخدعة، ويعرف تقديم تحقيقه في تبيان مصادر الضعف أو القوة إن وجدت، وبالتالي لا يمكن لأي كتاب عن الاستشراق أن يتسلل إلى قلبه، خاصة الكتب التي في أساسها كلها شبهات.
إن متابعة مثل هذه الكتب، والقراءة من باب الاطلاع للمبتدئين، بصدق وأمانة قد تسبب انحرافاً عقدياً، لما لها من تأثير في محاولة إحداث شرخ في قلب المسلم عموماً، باستثناء أصحاب التخصص من المتمكنين، فالإيمان القلبي هو الأساس لترسيخ العقائد الدينية وتفعيلها في الحياة كما شرحناها مطولاً في مقالات “مقاصد الشريعة الإسلامية”، فالمتخصص يتوجب عليه القراءة في هذا المجال، للرد على كل الادعاءات التي تحويها كتب الاستشراق وما فيها من أفكار بعيدة عن العالم العقدي الإسلامي، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث الصحيح: “لو كان موسى حياً ما وسعه إلا إتباعي”، وذلك بعد أن رأى بعض أوراق من التوراة في يد عمر بن الخطاب، وذلك حذراً وخشيةً على المسلم من أن يتأثر ويبتعد عن دينه وتعاليمه.
الأمر الآخر، أن البعض فرّق بين كتب الاستشراق، وبين الكتب الناقدة لها، فالأفضل لمن يرغب بالإطلاع على كتب المستشرقين أن يقرأ الكتب الناقدة لها، ليفهم حقيقة الكتاب الأساس الذي تم نقده، وهذا أيضاً أمر على المبتدئين من طلبة العلم اتباعه، فلدينا اليوم إشكالية كبيرة على كثير من شبابنا المتأثر بالمستشرقين دون علمٍ أو دراية، لهو كمن يتجرّع السم بيديه، وتراهم ابتعدوا عن الدين رويداً رويداً، وبالتالي انحرفوا عن العقيدة، ولذلك ركز الكثير من العلماء على التحذير من الوقوع في حفرة الاستشراق هذه.
د. عبدالعزيز بن بدر القطان