صفة “إمبراطورية الكذب” أطلقها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على الغرب وأمريكا، وأظنه صادقاً في هذا التوصيف، فعندما اضطرت روسيا إلى وقف تمادي الغرب في اللعب على حافة الهاوية في أوكرانيا، ووجدت نفسها في خطر وجودي، قررت درء هذا الخطر الداهم، فجنَّ جنون هذا الغرب الماكر الذي ظل مُتحداً عبر القرون الماضية في استغلال الضعفاء، أي ضد كل البلاد التي تضعف نتيجة الجهل والتفرقة، فإنهم يستغلون فرقة الضعفاء وجهلهم، لإضعافهم أكثر وأكثر تحت مبدأ “فرق تسد” وإن الأكثر استغلالاً لهذه القاعدة أو المبدأ، هي أم الخبائث “بريطانيا” فقد احتلت مُعظم دول العالم، وكانت تسمى بـ”الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس”.
ليس ذلك وحسب؛ بل إنها لا تخرج من مكان إلا وقد بيتت له مائة مصيبة ومصيبة؛ لتظل تستجرّ على مصائب ذلك المكان أو تلك الشعوب، وأكبر كارثة حلَّت بالعرب على يد بريطانيا، هي كارثة إعطاء فلسطين للصهاينة وما تزال تُؤكد على ذلك بوقوفها مع الصهاينة. وإذا نظرنا إلى فرنسا فإنِّها الأسوأ في احتلالها للآخرين؛ لأنها تطلق العنان لوقاحتها وغطرستها ضد الشعوب التي تحتلها، وأكبر مثال على خبثها ما كانت تفعله في الجزائر والجزائريين، ليس لأنها تقتل النَّاس للتسلية وحسب ونهب الثروات، وإنما كانت تجرّب قنابلها النووية على الناس في الجزائر، وكل الدول الأوروبية كانت صاحبة مزاج استعماري بغيض وتفاخر بأذى النَّاس وإذلالهم مهما تواروا خلف حضارة مزيفة وديموقراطية كاذبة.
وعندما نعود إلى العملية التصحيحية التي تقوم بها روسيا في أوكرانيا اليوم، فهو تصحيح لِما عجزت عن ردعه في عام 2014، يوم نجح الغرب في الإتيان بزمرته الخاصة لتحكم أوكرانيا، ولتشكل تهديدا مباشرا ضد روسيا الاتحادية، وهي وبضع دول تبقت من الاتحاد السوفييتي، وهو الذي كان يخلق توازنًا مع الغرب حتى لا يطغى واحد على الآخر. وإن كنّا نحن العرب قد تضررنا من تعارك القوى العظمى على الوطن العربي، إلا أن هذا الغرب لم يستطع أن يغزو أي بلد عربي عنوة، حتى سقط الاتحاد السوفيتي عام 1991م فلم تجد أمريكا من يقول لها توقفي عند حدك، وأعلنها يومذاك بوش الصغير “من لم يكن معنا فهو بالضرورة ضدنا”!!
إذن.. يجب ألا ننظر إلى ما يجري اليوم في أوكرانيا على يد روسيا، أنه شر مطلق؛ بل قد يكون فيه بعض الخير، فعلى سبيل المثال: اختفى من القواميس الغربية بعض المصطلحات، وعلى رأسها مصطلح المُقاومة، فقد كان يطلق على المقاوم الفلسطيني أو اللبناني أو العراقي أو اليمنى الإرهابي، وكذلك كانوا يسخرون من النازحين العرب ويتركونهم يموتون، إما في معسكرات الانتظار أو غرقاً في مياه البحار، وكانوا فقط ينتقون بعض الشباب والأطفال ليعوضوا بهم نقص العمالة في بلدانهم، لأنهم جنحوا للزواج المثلي، أو حتى قننوا الإنجاب، فلم يسمحوا بأكثر من مولودين لكل أسرة، مدَّعين بذلك السلوك أنه هو السلوك المتحضر، وهم أبعد شيءٍ عن التحضر، وإنما شعوب تنخر فيها العنصرية المقيتة. فعندما نظروا إلى النازحين الأوكرانيين، قالوا عنهم مختلفين عن النازحين العرب، ولكن الذي رأيناه ونراه حتى الآن، إنما النازح الأوكراني يشبه النازح العربي، فهم يحملون أغراضهم وأمتعتهم على رؤوسهم وظهورهم، وكذلك سمعنا عن مصطلح “مقاوم ومقاومة” وانتفت كلمة الإرهاب والإرهابيين.
إنَّ الذين يصفون الزعيم الروسي بوتين بالمتهور، ويزعمون أنَّه سيندم يوم لا ينفعه ندم، فهذا كلام فيه الكثير من المبالغة، فلو كان حقاً متهوراً لأظهر تهوره يوم تمَّ إزاحة الرئيس المنتخب لأوكرانيا، والموالي لروسيا عام 2014، ولم ينتظر 8 أعوام حتى يقوم بتصيح الوضع المُقلق، وهو يعلم أنَّ أمريكا كادت أن تشن حربًا نووية على الاتحاد السوفيتي عام 1962م فقط لأنها أحضرت بعض الصواريخ الاستراتيجية إلى كوبا- فيما كان يعرف آنذاك بأزمة “الصواريخ الكوبية”، وبالمُقارنة ستجد مئات الكيلومترات بين كوبا وأمريكا، وستجد بعض السنتيمترات بين أوكرانيا وروسيا، وقد قال الرئيس الروسي في خطابه قبل دخول أوكرانيا، إن بعض الصواريخ تحتاج إلى 4 دقائق فقط لتصل إلى موسكو، إذا أُطلقت من أوكرانيا، وتجد الرئيس الأوكراني يرفض إعطاء تطمينات لبقاء أوكرانيا على الحياد، ها هو الآن يطلب الانضمام الفوري إلى حلف الأطلسي، ومع ذلك يقول بعض العرب إنَّ الرئيس الروسي قد تهور؟!!
إنَّ روسيا ليست كبعض العرب متهورين وعاطفيين، ولا يخططون ولا يدرون أصلاً بالدنيا إلى “وين ذاهبة بهم”، لكن هذا الروسي الذي تقولون عنه متهورًا- ذلك كما يصور لكم الإعلام الغربي- “جالس يحسبها بالملي” كما يُقال، ففي 2013 كادت أمريكا أن تُعلن إفلاسها، وهي الدولة الوحيدة حول العالم التي يكلفها الأمر أن تطبع أوراق الدولار فقط، وبضمان البترول العربي، وليس بضمان أطنان الذهب. ومع ذلك حدثت بها أزمة اقتصادية، وقد تقدم لإنقاذها روسيا والصين، وعندما سأل أحدهم ضابط مُخابرات روسي، لماذا فعلتم ذلك؟! أليست أمريكا عدوتكم قال: بلى، ولكن لا نُريد لأمريكا أن تسقط فجأة، فسوف تسقطنا معها، ولكن نريد نحن من يحدد وقت سقوطها، لذلك أقرضناها حتى لا تسقط الآن- يعني ذاك الوقت في عام 2013؛ أي قبل 9 سنوات.
ترى هل يظن هذا البعض أن روسيا والصين نامتا عن الموضوع، كما يفعل العربان، طبعًا “لا”، فهما يعملان على إسقاط أمريكا والغرب في مكانٍ بعيد عنهما، فأنشأوا مجموعة “بريكس” وأنشأوا بنكًا إستراتيجيًا في الصين برأسمال يعادل 100 مليار دولار. أما الذين يهددون اليوم بإخراج روسيا من النظام المالي الدولي “سويفت”، فنقول لهم جزاكم الله خيرًا على ذلك، فإنَّ روسيا والصين ستفتحان نظامًا آخر يريح الدول التي لا تسير في فلك أمريكا؛ لتتحرر من ابتزاز الغرب. شيء آخر.. هل يظن الغرب أنه يستطيع سلب أو حجز الأموال الروسية، كما يفعلون ذلك بكل أريحية مع البلاد الضعيفة، والعربية على وجه العموم وخاصة الخليجية التي يعد سلب أموالها من قبل الدول الغربية أسهل من شربة الماء.
أقول لكم اطمئنوا إن ذكاء الرئيس الروسي، أكبر من أن يبتزه الغرب، وإن هذه الحرب هي حرب فاصلة ستلغي الهيمنة الغربية الظالمة وإلى الأبد، وإن الزعيم فلاديمير بوتين سيؤدب هذا الغرب الظالم، وحتى الرمز الذي وضعه للقوات المسلحة الروسية أصبح يشغل النَّاس في تحليلاتهم، فقد وضع الحرف اللاتيني “Z” وأظنه يقصد به نهاية اللعبة كما يقال من “Z : A”؛ يعني قفز كل الأحرف إلى الحرف الأخير، وإن الذي يجعلنا نثق بصحة ما يقوم به الرئيس بوتين، فننظر إليه من معيار الداعمين لأوكرانيا، فعندما نجد أن الإسلاميين الذين دمروا الأمة الإسلامية والعربية مثل داعش وأخواتها وحبيبتهم إسرائيل، فأعلم بصوابية ما يقوم به الروس.
حمد بن سالم العلوي