لم يعد خافيا الصراع بين الشرق والغرب، وكما أسلفنا في مقالين سابقين عبر هذه الصحيفة الأول في سبتمبر ٢٠٢١م بعنوان نظام دولي جديد يتشكل والأخير أواخر شهر فبراير الماضي ٢٠٢٢م الذي تطرق لصراع المحاور على خلفية الازمة الاوكرانية والقرار الروسي باجتياح أوكرانيا الذي وجد المسوغات الأمنية حسب ما وصفه الكرملين بتهديد الامن القومي الروسي من قبل اوكرانيا وتوجهها نحو الانضمام الى حلف الناتو، كل هذه الاحداث والمتغيرات الدولية تسجل عنوانا واحدا وهو الصراع بين الشرق والغرب .
هناك نظريتان انقسم حولهما المفكرين والاكاديميين حول النظام الدولي القادم وهما: النظرية الواقعية الهجومية والنظرية الليبرالية التعاونية وكل” له تفسيراته ومعطياته المتوفرة على الساحة ولسنا بصدد تفسيرهما فكلاهما واضح، إلا أن الاحداث التي تبرز على الساحة العالمية اليوم لا تميل نحو النظرية الثانية (الليبرالية التعاونية) بل تتجه بقوة نحو النظرية الواقعية الهجومية فالصراع العالمي هو صراع محاور ونفوذ وهيمنة لازاحة الطرف الآخر وبدأت معالم تحالفهما تتضح بقوة من خلال التحالف الكبير الذي جمع كل دول أوروبا مع الولايات المتحدة ضد روسيا وتخلت دول أوروبية عن حيادها المعروف بالانضمام الى التحالف الغربي وخاصة دول مثل سويسرا ودول بحر الشمال وهذا يؤكد عنوان واحد وهو أن خارطة التحالفات لا يمكن أن تتغير. بالمقابل فإن الطرف الآخر محور الشرق الذي تتصدره روسيا والصين تدركا ما يحدث من متغيرات على الساحة الدولية وتعلما جيدا مصادر القوة والاوراق الممكن استخدامها في مواجهة المحور الآخر .
روسيا والصين لديهما نفس العوامل المشتركة في مواجهة الغرب الرأسمالي كونهما أبرز أقطاب الاشتراكية الدولية ويحملان نفس الخصائص السياسية وهما الهدف الأول لتحالف الغرب وليس للولايات المتحدة وحدها فأوروبا أعلنت موقفها واضحا وبدا جليا أن التحالف الغربي مازال على نفس الاتجاه في مواجهة روسيا والصين ومحاصرتهما، لكن هذه المواجهة العالمية يبدو حتى الان لا يمكن أن تدخل في صراع مباشر أو حرب عالمية لكنها تعتمد سياسات الخنق المالي والحصار الاقتصادي، بالمقابل فإن محور روسيا – الصين أدرك مبكرا أن هذه المواجهة الاقتصادية قائمة فأقاما نظاما للتداول المالي بينهما وإن لم يكن كافيا نظرا لوجود اغلب دول العالم في نظام “سويفت” كما أن لدى روسيا والصين اتفاقيات استراتيجية مع دول أخرى منها تقع ضمن هذا المحور مثل كوريا الشمالية وايران واتفاقيات اخرى مع بعض دول آسيا والشرق الاوسط وافريقيا، وسيعتمد الصراع هنا على الجانب المالي والاقتصادي وسيقتصر على الدعم العسكري فقط الذي تقدمه دول الناتو لاوكرانيا وهذا لن يغير من المعادلة العسكرية التي تميل لصالح روسيا ولا يستبعد أن تتمدد روسيا في مناطق نفوذها بشكل أوسع .
القدرة المالية والمرونة الاقتصادية ومواجهة الحصار والعقوبات والانفتاح نحو البدائل الدولية الأخرى هو السبيل الوحيد الذي قد يفرز هذه المواجهة العالمية لصالح محور الشرق، وهذا الامر وإن بدا شاقا إلا أنه لا بديل سواه لمواجهة المحور الغربي الذي لم ولن يتمكن من المواجهة العسكرية لا في مناطق نفوذ روسيا ولا في بحر الصين (إن حدثت مواجهة أخرى) ويدرك الغرب جيدا ما تعنيه المواجهة المفتوحة أو بالأحرى الحرب العالمية في مواجهة الشرق المدجج بالسلاح النووي والصاروخي وقد وجه تهديداته الواضحة لكل من يحاول الاقتراب من دائرة الصراع في اوكرانيا وهو تهديد حقيقي لا يقبل القسمة على اثنين، لان هناك قرار محوري واضح لدى الكرملين بالعودة الى صدارة المشهد العالمي ونقطة البداية سجلتها روسيا قبل ذلك وبالتالي فإن العنوان هنا هو صراع محاور لا يمكن التراجع فيه، وما يميز الموقف الروسي هنا أنه في حالة تقدم سياسي وعسكري منذ بداية الالفية ويمكن أن يكون هذا العام ٢٠٢٢م وبعد ثلاثة عقود من تفكك الاتحاد السوفييتي عام الحسم الاستراتيجي ليقدم القيصر الجديد فلاديمير بوتين روسيا كقطب عالمي في نظام دولي آخذ” بالتشكل وربما يتطلب الامر فترة من الزمن في ظل هذه المواجهة القائمة بين الشرق والغرب .
الفترة الزمنية القادمة قد تحمل معها بعض المتغيرات العالمية سواء” السياسية منها أو الاقتصادية كالانفتاح على مناطق اقتصادية أخرى أو دخول بعض الاطراف الدولية في أحد هذين المحورين، حيث من الممكن انخراط بعض دول آسيا في محور روسيا – الصين، وقد تبقى دول قارتي امريكا الجنوبية وافريقيا على مسافة واحدة من هذا الصراع، وسيحمل الصراع صيغته الاقتصادية مع بعض الدعم العسكري والسياسي وهذه الصيغة لن تتمكن من وقف عملاقي الشرق عن الهيمنة على مناطق نفوذهما في ظل تراجع القدرة السياسية والاقتصادية لدى الولايات المتحدة، وبالتالي فإن قدرة محور الشرق على تجاوز الحصار المالي والاقتصادي الغربي وخاصة نظام “سويفت” المالي سيبرز نظام عالمي جديد ينهي نظام القطبية الأحادية تماما ويقدم عالم متعدد الاقطاب، أما في حال حدوث مواجهة عسكرية (حرب عالمية) بين هذين المحورين فإنه لا مجال للحديث عن بقاء المحور الآخر فأيهما سوف يتسيد العالم؟؟
في قانون الطبيعة هناك قاعدة الصعود والهبوط وهي قاعدة معروفة بصعود أمبراطورية وتراجع أخرى أو زوالها وقد حدث ذلك للامبراطورية العثمانية والنمساوية بعد الحرب العالمية الاولى وبروز نظام دولي جديد ما بعد الحرب، ثم جاءت الحرب العالمية الثانية لتشهد نظام دولي آخر تسيدته الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي والذي كان من أبرز ملامحه الحرب الباردة التي انهكت النظام السوفييتي وفككته لكن بقيت القوة الروسية تحمل بعض مواصفات وجينات الاتحاد السوفييتي السابق وها هي اليوم بعد ثلاثة عقود تقدم نفسها كقوة عالمية تعلن نفسها كقوة عالمية في نظام عالمي لا الهيمنة الامريكية هي السائدة فيه، وتدرك انها ليست وحدها في دائرة هذا الصراع بوجود التنين الصيني الى جانبها وربما دول أخرى أيضا وهذا المحور قادم بقوة لاعادة صياغة نظام عالمي جديد بما يمتلك من قدرات اقتصادية وسياسية وعسكرية وقد بدت ملامحها تظهر على الساحة الدولية، وهذا المشهد الدولي يؤكد قانون نظرية البقاء للاقوى ويؤكد قاعدة الزوال والافول وفقا لقانون الطبيعة والادلة ماثلة للعيان من خلال الازمة الاوكرانية وقد عبرت تغريدات الرئيس الاوكراني بطريقة أو بأخرى عن الواقع .
العرب اليوم أمام مشهد عالمي مليء بالمتغيرات وعلى الدول العربية قراءة هذه المتغيرات العالمية وتقدير الموقف واستشراف المستقبل بشكل جيد يجنب المنطقة أن تكون ساحة لتصفية الحسابات في هذا الصراع، ولا شك أن المرحلة الآنية تشبه الى حد ما مرحلة الحرب الباردة مع اختلاف في الادوات فقط لذا فإن الوطن العربي كمنطقة مستقلة تاريخيا وجغرافيا وثقافيا أن تعتمد سياسة الحياد الايجابي والابتعاد عن الاصطفاف في أي محور، ومما لا شك فيه أن قيام نظام دولي جديد متعدد الاقطاب يخدم القضايا العالمية عموما وقضايا العرب خاصة، وعلينا الاستفادة من دروس التاريخ وأن نأخذ الدرس من مراسلات حسين – مكماهون التي خانها الغرب مباشرة من خلال مؤامرة سايكس – بيكو ١٩١٦م ووعد بلفور ١٩١٧م لذا فالتاريخ لا يتغير، وذاكرة الأمة العربية لم يغب عنها محاكم التفتيش والحملات والمؤامرآت والاستعمار والجرائم التي ارتكبت في تلك الحقبة وما زالت شاهدة على التاريخ .
خميس بن عبيد القطيطي