أصدرت الباحثة والأكاديمية الدكتورة عائشة الدرمكية عام 2022 كتابًا يشتمل على مقالات كانت قد أسهمت بكتابتها لصالح صفحة «سيمياء» ضمن مجلة تراث، التي تصدر عن «نادي تراث الإمارات» بأبوظبي.
واختارت الكاتبة عنوانًا جامعًا لكتابها «سيمياء.. مقالات في الثقافة وعلاماتها» وحين بحثت عن عنوان فرعي يحمل هذا الاسم لم أجد له أثرًا، فتبين أن الأمر يتعلق بالخيط الخفي الرابط لهذه المقالات، وهو «السيمياء» خاصة أن المقالات كانت تصدر تحت نفس هذا الاسم، إلى جانب أن تخصصها الذي أنجزت فيه شهادة الدكتوراه من جامعة محمد الخامس بالرباط.
وبقراءة المقالات يتبين أن الهاجس السيميائي كان هو المحرك الأساس لهذه المقالات، يؤكد ذلك تكرار كلمات وعبارات ضمن القاموس السيميائي من قبيل «شفرة، الأنساق الدالة، العلامة..الخ».
فنحن كما كان يقول السيميائيون «محاطون بالعلامات في حياتنا» والسيمياء هو العلم المعني بدراسة العلامة، التي يمكن أن تراها في كل ما ستقع عليه عينك أو تستحضره ذاكرتك، لذلك فرغم تنوع وثراء موضوعات هذا الكتاب الذي جاء في 360 صفحة وسبعة أبواب انضوى تحتها 52 موضوعًا، فإن كل موضوع يحمل سيمياءه وعلاماته، وبالتالي معانيه ودلالاته الخاصة به.
أبواب تفضي إلى حقول
تبدأ الكاتبة موضوعاتها بسؤال الثقافة المتعدد باحثة عن مكونات هذه المفردة الشائكة والجامعة «ثقافة» والتي يصعب حصرها وقد كثرت التعريفات حولها، فهناك عشرات التعريفات للثقافة وبعضها يبعد عن الآخر حتى في دلالاته ومعانيه، بينما حصرت الكاتبة هذا المفهوم تحت باب «شيفرة الثقافة وقدراتها» متدرجة بالقارئ في فك هذه الشيفرة عبر طرح أسئلة فردية ومجتمعية، وكذلك عبر التفكير في مآلات الثقافة وتميزاتها بين الديني والحوار الفكري، وطبيعة الثقافة في علاقتها بالتراث، ولأن الكاتبة معنية بالتاريخ المروي والتراث اللامادي، (حيث أنجزت فيه مجلدات صدرت سابقا عن الوزارة المعنية بالتراث) لذلك سيجد القارئ مسافة واسعة ومتناثرة للحديث عن هذا الموضوع بإدخاله في صيرورة الزمن المعاش، وكذلك عن كيفية كتابته انطلاقا من خبرة الباحثة الشخصية في إنجازه، حيث ترى الكاتبة أن لفظ «الترميم» هو التعريف الأنسب للتعامل مع التراث كتابيا، فنحن حين نكتب التراث المستوطن في العقول -حسب نظر الكاتبة- لا نقوم سوى بترميمه: «نصوص التراث مهدورة حقوقها ما دامت غير مكتوبة أو مدونة، وغير متوارثة بالمعنى العملي للكلمة، فكثير من نصوص التراث الثقافي غير المادي ما عادت موجودة إلا في ذاكرة من كان يمارسها، لذلك فإن الحاجة إلى إيجاد آلية لترميم تلك النصوص أصبحت ملحة» ص 59.
تخصص الكاتبة كذلك بابا للثقافة وعلاقتها بالتنمية، وقد افتتح هذا الباب بعبارة دالة للمفكر مالك بن نبي تذهب إلى أن الثقافة أصبحت تتحدد داخل تخطيط عالمي، وقد اجتهدت الكاتبة في وضع تعريفات هذه العلاقة بين الثقافة والتنمية، مفرقة إياها بين ثقافة شعبية وأخرى جماهيرية وثالثة نخبوية، يكون الوطن حاضنًا لها بل حاميًا لها.
و«هكذا يقوم التعدد ويتشكل ثقافيا ضمن معطيات تنشأ عنها ثقافات متنوعة في هذا الكيان العام» ص 65.
وفي هذا الباب المتعلق بعلاقة الثقافة والتنمية نجد موضوعًا مهمًا تحت عنوان «صناعة الأجيال رهان ثقافي» وهذا المقال أشبه ببحث معمق مصغر، حيث تتبع الكاتبة مفهوم «التهجين» عبر أكثر من مرجع، ووفقًا لهذا الموضوع، تقدم المجتمعات عادة وتحولها وتطورها يكون عن طريق التهجين الثقافي، وهو نمو اجتماعي لا واعٍ، يكون نتاج تلاقح مجموعة من الثقافات عبر الزمن، والمجتمع الذي يمتلك ثقافة هجينة تكون قابلة للصمود عبر الزمن أكبر «على التهجين أن يظل يعمل في الخفاء ليل نهار حتى نستطيع القول إن الجيل الشاب يمكنه أن يندمج في مجتمعه دون الخوف من وقوعه في الطرف أيا كان نوعه وشكله» ص 88.
والكاتبة في هذا الفصل تؤكد على أن من أشد الأخطار التي تواجه المجتمعات ضمن الثقافة الجماهيرية هي انفلات وتفككك التجمعات المجتمعية، وهو ما تسعى إليه الشركات الإلكترونية الضخمة «التي أصبحت تؤطر ثقافة المجتمعات وتجعلها داخل منظومة أرادتها وخططت لها هي من مثل شركة فيسبوك، وتويتر، وواتس أب، وانستجرام، وغيرها الكثير من تلك الشركات التي تصنع الثقافة الجماهيرية للمجتمعات ضمن منظومة سلطوية تحاصر بها الأفراد وتوجههم نحو فكرة أو مجموعة من الأفكار التي تفرض سياسة تلك الشركات» ص 89.
نلاحظ في مقالات الكتاب أن البعد الفكري يتلاقى مع التأويل السيميائي، بل تكاد السيمياء تختفي لصالح النظرة الشمولية العامة، كما أن المرجعيات الكثيرة المقتبسة من أعلام مختلف العلوم وخاصة علمي الفلسفة والاجتماع، تبين مدى اطلاع الكاتبة على مختلف المراجع الكلاسيكية والحديثة إلى جانب البحث عما يقابلها في ثقافتنا العربية، مثل استحضارها للبيئات العربية كالأسواق والمدن إلى جانب اقتباسات من الشعر العربي القديم، بما يناسب السياق والمقام.
كما يوضح أن الكاتبة كانت تشعل الكشاف السيميائي (إن صح التعبير) على مختلف نواحي الحياة، وهي في ذلك تذهب مذهب أعلام عالميين وعرب عرفوا بهذا مثل رولان بارت وإمبرتو إيكو، وعربيا السيميائي المغربي سعيد بن كراد الذي يرد اسمه مرارًا وخاصة في سياق حديثه عن سيميائيات الإشهار والإعلانات، التي ترك فيها تراثًا مهمًا، كما ترجم كتبًا سيميائية عديدة إلى العربية، وكان من أهم الكتب المترجمة التي قرأتها له في سياق الدرس السيميائي كتاب «سيميائية الأهواء» للمنظرين السيميائيين المعروفين جريماس وجاك فونتاني.
أبعاد الجهد المبذول في الكتاب
ربما أهم ما يميز الكتاب هو الابتعاد قدر الإمكان عن التحليقات النظرية، مكتفية في مقالاتها بإشارات أولية هي إحالات واقتباسات نظرية لا بد منها لأسماء معروفة، حيث إنها تخوض في حقل قد سبقه إليها العديد من المنظرين، ولكنها عادة ما تختار لكل موضوع اقتباساته وإحالاته التي من الممكن أن تضيئه (ولا تغمضه أو تعقده) وبالتالي يكون تمهيدًا للقارئ يقصد منه الإفهام، وبعد ذلك تنشغل بمجموعة من الموضوعات التي يكون بعضها عاما، ولكنها لا تغني عن البحث في دلالاتها، لذلك فإن القارئ أوجد في الكتاب مجموعة من المقالات المرتبطة بحياته وذاكرته، ولكن رغم بساطتها ومألوفيتها في حياتنا إلا أننا لا ننتبه كثيرًا لأبعادها الدلالية، مثل الضجيج، والعين، والحسد والرائحة، والبيوت التي ليست مجرد إسمنت وسقوف، إنما ذكريات وحياة طويلة وأجيال متعاقبة، وبذلك سنفهم لماذا كبار العمر يرفضون أن يغادروا بيوتهم التي تربوا فيها تحت أي إغراء. كذلك سنجد استطرادا عن الأسواق الشعبية التي تتميز في كل بلد عربي بتقاربها وضيق أزقتها وفي ذلك أبعاد اجتهدت الكاتبة لسبرها، تقول مثلًا في مقال تحت عنوان «فضاءات الأسواق»: (نجد أن الأسواق الشعبية تتخذ على الدوام سمات وخصائص مكانية معينة في قربها من قلب المدينة وفضائها المتسع الطولي وأزقتها الضيقة، هكذا سنجد أسواقًا مثل سوق مطرح في سلطنة عمان، وسوق الزل في المملكة العربية السعودية، وسوق نايف وسوق مرشد في الإمارات العربية المتحدة، وسوق المباركية في دولة الكويت، وسوق المنامة في مملكة البحرين، وخان الخليلي في جمهورية مصر العربية، وسوق البخارية في المملكة الأردنية الهاشمية، وسوق العطارين في المملكة المغربية، وغيرها كثير).