يتواتر الكثير من النظريات والأفكار التي تتحدث عن تغيرات عالمية فجائية وسريعة في العالم، وهناك العديد من المفكرين العرب والغرب الذين يقتربون ويبتعدون في تحليل هذه القضية، مثل فوكوياما وهنتجتون في نظريتيهما المتباينة نهاية التاريخ وصراع الحضارات، وتبعهما أو خالفهما منظِّرون آخرون مثل بريجنسكي وفريدمان وهنري كيسنجر، وهناك بعض المنظِّرين أو المفكرين العرب مثل الدكتور بسام جرار الذي تحدث عن الإعجاز العددي وأسهب في تفسير بعض الآيات من القرآن الكريم، والتركيز على زوال ما يُسمَّى “إسرائيل” وإن كنا نعتقد أيضا بذلك، ولكن ليس بهذا التحديد الزمني الذي حدده بهذا العام ٢٠٢٢م، وتم التركيز عليه فيما يحدث من تغيرات في العالم، كذلك الدكتور طلال أبو غزالة الخبير الاقتصادي المعروف، وكلاهما أسقط الأحداث الأخيرة في الأزمة الأوكرانية والاجتياح الروسي وفق تفسيرات وتحليلات سابقة مرتبطة اقتصاديا وسياسيا. لكن ما ينتقد فيها عدم الاعتداد بالعامل الزمني الذي يتطلب أن يأخذ مجراه في حركة التاريخ وتغيراته، ومع أننا نتفق جميعا على مستوى وحجم تلك الأحداث ودورها في إحداث تغيُّرات عالمية مرتبطة بصراع المحاور وبداية صعود أقطاب جديدة على خريطة النظام العالمي. لكن هذه المتغيِّرات لا يمكن الجزم بأنها ستحدث انقلابا تاما في النظام العالمي بين عشية وضحاها، بل لا بُدَّ من أخذ الوقت مجراه الطبيعي لإحداث هذا التغيير، وهذا ـ بلا شك ـ ضمن نواميس الطبيعة .
هناك بعض الكتَّاب الذين تمادوا في هذه المسألة وأسهبوا في تحليلاتهم، بل تجاوزوا مسألة صراع المحاور والأقطاب بالقفز على حركة السياسة والعلاقات الدولية، فنقلوا الحديث إلى مسائل غيبية أخرى مثل الحكومات الخفية التي تحكم العالم وما يُسمَّى الماسونية والصهيونية، وذهبوا إلى أن القدر بيَدِ هذه الحكومات العالمية، خاضعين لحالة أقرب للتنبؤات عنها بعيدا عن الأسباب والتغيُّرات الدولية. وهذه التنبؤات التي يراد إبرازها على الساحة الإعلامية قد تكون لأهداف ومآرب خاصة وضعتها بعض مراكز الاستخبارات الدولية التي تحرص على ضخ مثل هذه التسريبات الإعلامية، وإن لم تستند إلى وقائع أو شواهد حقيقية، لوضع الإعلام العالمي في حالة غيبية تحقق أهدافها الخبيثة، ومصدرها هي نفسها الأطراف الصهيونية التي تعمل على بث مثل هذه التسريبات.
الحديث عن الأزمة الأوكرانية سبق الحديث عنه من قبل الكثير من المراقبين والمفكرين الذين شخَّصوا الأزمة بشكل واضح من خلال أبعادها السياسية والاقتصادية والأمنية والعسكرية، وهي ـ كما أسلفنا ـ في مقالين سابقين صراع كسر عظم بين هذه المحاور، وبداية صعود أقطاب على حساب الهيمنة الغربية الرأسمالية المتوحشة التي مارست كل أنواع الظلم والبغي في الأرض، وآن الأوان اليوم أن تجني ثمار تلك الممارسات الشيطانية. ولا شك أن قضية التغيير وهلاك أُمم وصعود أخرى، جاء ضمن قوانين ودساتير سماوية إلهية واضحة، إلا أن الأمر دائما يحتاج لعنصر الوقت للانتقال من مرحلة إلى أخرى حسب قوانين الطبيعة، ويمكن أن يحدث التغيير الفجائي اللحظي في حالة واحدة عندما يقدر الله سبحانه معاقبة أقوام كما حدث لأُمم وأقوام سالفة.
المؤمنون عموما هم الأكثر قدرة على فهم هذه التجاوزات الفكرية التي تعيش على هذه التنبؤات، مع أن بعض التنبؤات أيضا وردت في القرآن الكريم، لكنها تنبؤات يقينية قائمة على الإيمان بالله واليوم الآخر والقدر. ولذلك ينبغي أن نحتكم في مثل هذه الحالات الإعلامية المتمادية ـ كالحديث عن الحكومات الخفية وغيرها ـ إلى أن هذا الكون يسير وفقًا لمشيئة الله سبحانه، وأن سُنن التغيير واردة، لكنها ليست على صيغة هذه التنبؤات المشوشة التي تحاول تحقيق مآربها الخبيثة، وتحاول إلغاء كل ما يتعلق بالعقل والجوانب الإيمانية، وعلينا ـ كأُمَّة مؤمنة ـ الاطمئنان وتجنُّب نشر مثل هذه الأفكار وقياس المتغيِّرات وفق معايير المتغيِّرات المنطقية ونستند إلى حقائق التاريخ. فما يحدث اليوم من صراعات دولية بين هذه المحاور هي مؤشرات لصعود محور شرقي (روسي ـ صيني) على حساب محور غربي بدأت تراجعاته وبدأ يجني حصاد تاريخ مليء بالجرائم والانتهاكات الإنسانية.
خميس بن عبيد القطيطي