لم أجد عنوانًا أفضل من هذا العنوان لمقالي هذا، وهو عنوانُ ملفٍ فتحَتْه جريدة عُمان عن “الهدر المائي وموانع الاستثمار” نُشر بتاريخ 26 فبراير 2022، الذي تناول فيه سهيل بن ناصر النهدي قصة “فلج بيت الفلج” الذي ينبع من الجبال ويقطع مناطق روي المختلفة حتى يصب في البحر، في أبلغ صورة عن هدر المياه، في وقت يكرر المسؤولون فيه الحديث عن أزمة المياه، وأنّ عُمان واقعة ضمن الدول المصنَّفة بقلة المياه، وسنّت قوانين للحفاظ على المياه الجوفية، من ضمنها منع حفر الآبار، وقامت ببناء بعض السدود للحفاظ على هذه المياه من الهدر.
وجد ملف جريدة عُمان هوى في نفسي، لأهمية الموضوع المطروح أولًا، ثم لأننا ضحايا الإهمال من قبل الجهات المختصة، بعد أن عانينا معاناة شديدة من المياه الجوفية الكثيرة تحت بيتنا في روي، التي ظهرت بكثرة بعد إعصار شاهين؛ فلم نجد الحلّ من تلك الجهات إلا توصية بالاستعانة بشركة استشارية، وما كان منا إلا أن نشتري “مضخات” للتخلص مؤقتًا من المياه الجوفية النقية، لأكثر من خمسة أشهر، لحين الحصول على حلٍ جذري؛ هذا خلاف أني كنتُ قريبًا جدًا من فلج بيت الفلج في مستهل شبابي في بدايات السبعينات من القرن الماضي، وشربنا من مياه ذلك الفلج عندما كنّا نأتي من ولاية أدم إلى مسقط، ونقيم في مخيمٍ للعمّال بالقرب من جامع السلطان قابوس في روي حاليًا، قبل أن نستقر نهائيًا في روي عام 1974. وما حصل معنا حصل مع مبانٍ كثيرة في المنطقة نفسها، وكذلك – حسبما علمت – في العامرات والحيل والأنصب، حيث أكد لي عبد الله بن أحمد الصلتي عضو المجلس البلدي عن بوشر أنّ هناك بعض البيوت تسبح في الماء، خاصة بعد جونو وفيت وشاهين، وأنهم شكلوا لجنة لإيجاد الحلول إلا أنهم لم يجدوا غير التسويف، وأنه قدّم اقتراحًا لاستغلال هذه المياه للحدائق والمسطحات الخضراء، أو أن تباع لمقاولي البناء للاستفادة منها في حركة العمران النشطة في تلك المنطقة، لكن كلّ تلك المقترحات ذهبت سدى.
توقّف جريانُ فلج بيت الفلج فترة من الزمن، وعاد للجريان من جديد بعد إعصار جونو عام 2007، ليصبّ في البحر على مدى 15 عامًا، دون الاستفادة منه. وقد تنبّه باكرًا الزميل الإعلامي محمود بن عبيد الحسني إلى مسألة هدر المياه الجوفية، فأعدّ أكثر من عشرين تقريرًا مصورًا عن المياه التي تُهدَر في أكثر من مكان، من القرم إلى العامرات وروي وبعض المناطق الداخلية وغيرها، ومع ذلك مرّت تلك التقارير مرورًا باردًا دون أن تحرّك ساكنًا، وكانت كفيلة أن تقضّ مضاجع النوام وتوقظهم من أحلامهم الوردية. والمواطنون لا يهمّهم أن يعرفوا الجهة المسؤولة هل هي موارد المياه أم البلدية أم المجلس البلدي أم أيّ جهة أخرى، فتلك تفاصيل لا تفيد شيئًا، لأنّ المواطن يهمّه ماذا أنجز، ولا تهمّه كثرة التصريحات التي زادت وتيرتُها مؤخرًا؛ فالإنجاز دائمّا يتحدّث عن نفسه، ولا داعي للدعاية له. ونحن أصبحنا نستشعرُ الخطر من فترة طويلة، لأنّ مسائل بسيطة مثل هذه لم تجد الحلّ على مدى سنوات، فكيف لنا في مسائل كبيرة منها ما يتعلق بالاستثمارات من الخارج وغيرها من المسائل؟ قال لي الزميل محمود بن عبيد الحسني إنّ كلّ تلك التقارير لم تأت بنتيجة، رغم الصدى الطيّب التي تركته عند الكثيرين، ومع أنّ إحدى الجهات تواصلت معه قبل سنتين، عندما أعدّ تقريرًا عن بحيرة في العامرات وقبل ذلك عن المياه الجوفية التي تصبّ في البحر في منطقة القرم، وقيل له إنّ هناك لجنة مشكلة لحلّ الموضوع، إلا أنّ الأمر تجمّد عند ذلك، وهو ما اتّفقَ معه أيضًا سالم بن محمد الغماري عضو المجلس البلدي عن ولاية مطرح، عندما قال لجريدة عُمان “إنّ هناك لجنة مشكّلة من عدة جهات حول هذه المياه، ولكن لا يوجد باللجنة ممثل للمجلس البلدي”. وفعلا هناك ما يثير الاستغراب، فهل علينا أن ننتظر ربع قرن أو نصف قرن آخر حتى يجد الموضوع الحلّ؟
هناك العديد من المقترحات طُرحت للاستفادة من مياه الفلج، منها كما أشار الغماري، إقامة خزانات كبيرة تُجمع فيها المياه، ومن ثم يتم توصيل المياه لسقي المزروعات في المناطق والاستفادة منها في الريّ، فيما اقترح البعض إنشاء متنزه طبيعي تُستغل فيه هذه المياه، أو إنشاء قرية زراعية على هيئة محمية للنباتات أو الحيوانات، يتم فيها استغلال هذه المياه بشكل مناسب، “إلا أنّ كلّ هذه المقترحات لم يتم العمل بها، ومياه الفلج تذهب إلى البحر دون استفادة منذ تلك السنوات، وطال الحديث حولها أمام الجهات المعنية، ولكن للأسف لم تجد أيّ حلول على أرض الواقع، رغم أنّ الكثير من المسؤولين – بعدة جهات – تعاقبوا على موضوع مياه الفلج”. ولم تكن مقترحات الغماري هي الوحيدة، ففي التحقيق الذي أجرتْه جريدة عُمان مع أهالي دارسيت الساحل، هناك مقترحاتٌ كثيرةٌ قدّمها الأهالي للحكومة، لا داعي لإعادة نشرها، لكنها تفيد المسؤولين إذا كانت لديهم الرغبة في إيجاد الحلّ؛ ويبدو أنّ الناس وصلوا إلى حالة اليأس، وظهر ذلك من قول الشيخ إبراهيم بن محمد الوهيبي أنهم التقوا عدة مرات بعدد من المسؤولين ببلدية مسقط و”حيا للمياه”، وتبادلوا معهم العديد من المقترحات للاستفادة من هذه المياه، إلا أنّ الموضوع منذ عام 2007م، وإلى الآن لم يتم فيه أيّ إجراء.
كانت منطقة روي عبر تاريخها زراعية وما تزال، وبها مياه جوفية كثيرة، وكذلك فإنّ أفلاجها معروفة، ربما أشهرها فلج بيت الفلج، فبين العمارات والأحياء التجارية والسكنية والمؤسسات المالية والأسواق والطرق والجسور، ومن تحت الخرسانات الإسمنتية، تجري مياهٌ عذبة متسللة بهدوء، لتصل إلى دارسيت، شاقة مجراها إلى البحر دون الاستفادة منها، ولا أدري ما المانع من السماح للناس أن تحفر الآبار لتستفيد من تلك المياه بدلًا من ضياعها هدرًا، في وقت تتكّلف فيه الدولة مبالغ كبيرة لتحلية المياه، ويتحمّل المواطنون تكاليف فواتير المياه التي هي من الطول بمكان، ويصبحون كلّ يوم على تصريح ينفّر أكثر ممّا يبشّر عن رفع تسعيرة المياه والكهرباء. إنّ الأهالي في حيرة ممّا يحصل، ويتمنون الاستفادة من هذه المياه؛ وبما أنّ الأمر أخذ 15 سنة، أصبحوا يتمنون أن يتم وقف هذه المياه بدلًا من أن تجري ليل نهار لتصبّ في البحر دون أن يستفاد منها.
إنّ موضوع مياه روي وغيرها من المناطق- في اعتقادي – هو أكبر من مجرد نقاش حول مياه تُهدر، رغم أهمية ذلك طبعًا؛ فهو يُظهر أنّ هناك مشكلة نعاني منها، هي مشكلة اتخاذ القرار، وبِيَد مَن الأمر، وكيف تدار الأمور؟، ويُظهر أنّ هناك أزمة في الإدارة، أدّت إلى تأجيل أو فشل الكثير من المشروعات الداخلية، وإلى طرد الاستثمارات الخارجية، وأننا بحاجة إلى ثورة في الإدارة تقودها عقولٌ مبتكرة لديها الحلول وتيّسر الإجراءات، وإلا فإنّ الأمر خطير ولا يبشّر بخير؛ وصحيحٌ أنّ الدولة بنت السدود للحفاظ على مياه الأمطار، ولكن لا يعني ذلك إهمال بقية المناطق. وعادةً إذا كانت هناك مشكلة صغيرة لكنها لم تجد الحلّ السريع فإنها مع الأيام ستكبر وسيكون الحل أصعب، تمامًا مثل المرض الذي يبدأ صغيرًا، لكنه مع الإهمال يكبر.
• زاهر المحروقي كاتب عماني مهتم بالشأن العربي.
جريدة عمان. عدد الإثنين 14 مارس 2022م