الباحث في آيات القرآن الكريم وهي مترابطة قد أخذ بعضها بأعناق بعض كأنها الياقوت والمرجان يلحظ بجلاء هذا النظم الرائع والعقد الفريد فيستخرج المعاني من الألفاظ بما يتناسب مع روح الآيات الكريمة، بالتالي، إن الذي ينظر بإمعان في سورة طه يجد أنها تدور حول معانٍ رائعة في جو عام يملأ جنباتها باللطف والمؤانسة والرعاية، قال تبارك وتعالى: (وما أنزلنا عليك القرآن لتشقى).
وقد أحسن السيوطي (جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر بن محمد ابن سابق الدين الخضيري السيوطي المشهور باسم جلال الدين السيوطي، إمام حافظ، ومفسر، ومؤرخ، وأديب، وفقيه، 1445 – 1505 م)، حين أشار في المعترك إلى أن مبنى هذه السورة بجملتها على التلطف والتأنيس، وكنا قد شرحنا في الجزء السابق عن أهداف وأغراض السورة وأهمها توحيد الله تبارك وتعالى، والتوحيد بأنواعه الثلاثة الربوبية والألوهية والأسماءوالصفات، كذلك تبليغ الدعوة، ومشاهد يوم القيامة حيث يحاسب الناس على أعمالهم فيفوز الطائعون بالجنة ورضوان االله تعالى ويخسر المبطلون فيحملون أوزارهم إلى النار تصديقاً لوعد االله ووعيده، أيضاً جئنا على ذكر التحدي بالقرآن بذكر الحروف المقطعة في مفتتحها، والتنويه بأنه تنزيل من االله لسعادة البشرية وهدايتها، والتنويه بعظمة االله تعالى وإثبات رسالة نبي الله محمد صلى الله عليه وآله سلم، بأنها تماثل رسالة أعظم رسول قبله شاع ذكره في الناس فضرب المثل لنزول القرآن على محمد صلى الله عليه وآله وسلم، بكلام موسى عليه السلام، وقد أورد ابن كثير (عماد الدين أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير بن ضَوْ بن درع القرشي الحَصْلي، البُصروي، الشافعي، ثم الدمشقي، مُحدّث ومفسر وفقيه 701 هـ – 774 هـ)، بسنده عن أبي هريرة (عبد الرحمن بن صخر الدوسي صحابي محدث وفقيه وحافظ 603 – 678 م)، قال: قال رسـول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (قرأ طه، ويس قبل أن يخلق آدم بألف عام، فلما سمعت الملائكة قالوا: طوبى لأمة ينزل عليهم هذا، وطوبى لأجواف تحمل هذا، وطوبى لألسن تتكلم بهذا)، إذ ذكر ابن كثير بعد ذلك بأن هذا الحديث غريب.
يقول الحق تبارك وتعالى في كتابه العزيز من سورة طه: (منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى ولقد أريناه آياتنا كلها فكذب وأبى قال أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك يا موسى فلنأتينك بسحر مثله فاجعل بيننا وبينك موعداً لا نخلفه نحن ولا أنت مكاناً سوى قال موعدكم يوم الزينة وأن يحشر الناس ضحى فتولى فرعون فجمع كيده ثم أتى).
في هذه الآيات الكريمة، فصل من فصول القصة التي تولت سورة طه تفسيرها وبيان جزئياتها بما لم يأتِ في أية سورة من سور القرآن الكريم، موقف لموسى عليه السلام يعرض فيه الإيمان على فرعون، والأخير لا يريد أن يعترف بأنه مخلوق وهو متمسك بادعائه بأنه إله ولا يريد أن تهتز صورته في نظر الرعية الذين استعبدهم وأجبرهم على أن يعبدوه ويؤمنوا بأنه الإله الخالق، وهكذا كان منطق موسى عليه السلام أن يعرض على فرعون دلائل نبوّته التي هي آيات معجزات، وتذكير أيضاً بآيات الله تبارك وتعالى، حيث لم يكتفِ موسى بما هيأ الله له من المعجزات القاهرة التي تدل على صدقه، وإنما بيّن أن لله عز وجل في هذا الخلق وفي هذا الوجود آيات كثيرة، (الذي جعل لكم الأرض مهداً)، من الذي جعل هذه الأرض مهداً؟ ليس البشر بل هو الله وحده، (وسلك لكم فيها سبلاً وأنزل من السماء ماءاً فأخرجنا به أزواجاً من نبات شتى كلوا وارعوا أنعامكم إن في ذلك آياتٍ لأولي النهى)، (منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى) هاتان الآيان تعبران عن حقيقة الوجود كله، هذا الوجود الذي خلقه الله، وكفل له أن يستمر إلى قدرٍ وأجلٍ معلوم، ثم يتلاشى هذا الوجود ليكون وجود آخر، وجود برزخي، ثم يكون بعد هذا الوجود، وجود ثالث، وهو وجود الحشر والبعث والحساب والجنة أو النار، هذا كله يبسطه الله عز وجل في هاتين الآيتين، المسرح والمجال والأرض، أي هذه الأرض مهيأة لحياة البشر مما تحويه من سبل عيش للناس، فهذه إدارة هائلة للكون تحسب حساب كل موجود، فما أعظم هذه القدرة الإلهية التي تتحدث عن الكون ككله من بدايته واستمراريته إلى عمر الخلود إن كان له عمراً.
وفي معنى مشابه للمعنى المذكور في تفسير سيد قطب (في ظلال القرآن)، جاء فيه والأرض كلها مهد للبشر في كل مكان وزمان، مهد كمهد الطفل، وما البشر إلا أطفال هذه الأرض، يضمهم حضنها ويغذوهم درها، وهي ممهدة لهم كذلك للسير والحرث والزرع والحياة، جعلها الخالق المدبر كذلك يوم أعطى كل شيء خلقه، فأعطى هذه الأرض خلقها على الهيئة التي خلقت بها صالحة للحياة التي قدرها فيها؛ وأعطى البشر خلقهم كذلك على الهيئة التي خلقهم بها صالحين للحياة في هذه الأرض التي مهدها لهم وجعلها مهدهم، المعنيان متقاربان متصلان، من هذه الأرض التي جعلناها لكم مهداً وسلكنا لكم فيها سبلاً وأنزلنا من السماء ماء فأنبتنا به أزواجاً من نبات شتى، للأكل والمرعى، من هذه الأرض خلقناكم، وفي هذه الأرض نعيدكم، ومنها نخرجكم بعد موتكم، والإنسان مخلوق من مادة هذه الأرض، عناصر جسمه كلها من عناصرها إجمالاً، ومن زرعها يأكل، ومن مائها يشرب ومن هوائها يتنفس، وهو ابنها وهي له مهد، وإليها يعود جثة تطويها الأرض، ورفاتا يختلط بترابها، ومنها يبعث إلى الحياة الأخرى، كما خلق في النشأة الأولى.
من الملاحظ أن المفسرين الذين طرقوا أبواب (أسباب النزول) حين تفسيرهم للآيات، كان هناك تأكيد على تبليغ الرسالة كما يحملها القرآن الكريم، واضحة بيّنة، قال تعالى: (فمن اهتدى فلنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها)، في مطلع سورة طه ذكر سبحانه أن هذا القرآن نزل لسعادة البشرية وهدايتهم، إذاً إن رسالة موسى، كانت دعوة فرعون إلى الإيمان وحماية بني إسرائيل، وتحريرهم من الطاغية، واتضح ذلك عندما باستخدام موسى وهـارون إنّ المؤكدة كما في قوله تبارك وتعالى: (إنا رسولا ربك)، وبقول موسى وهارون (إنا رسولا)، إثبات أنهما لم يأتياه بمحض إرادتهما وإنما ذلك بأمر االله تعالى الذي هو رب العالمين، وقوله (ربك) نفي للربوبية التي ادعاها فرعون لنفسه واستطاع أن يوهم الناس فصدقوه وأطاعوه بغير هدى ولا كتاب منير، فالشيخ المراغي (محمد مصطفى المراغي عالم أزهري وقاض شرعي مصري 1881 – 1945) في تفسيره كان يرى أن موسى عليه السلام قد بدأ دعوته لفرعون بطلب إرسال بني إسرائيل وأخر دعوته إلى الإيمان، ولا شك بأن الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام تميزوا بالحجة والمنطق السليم بحيث لا يستمرون في نقطة واحدة إذا جحدها الخصم وأنكرها بل ينتقلون معه إلى حجة غيرها حتى يستسلم.
(ولقد أريناه آياتنا كلها فكذب وأبى)، معنى ذلك أن موقف السحرة جاء فيما بعد والقرآن يختصر المرحلة، لأن موقف موسى وهارون مع فرعون، امتد حتى استوعب كل الآيات، والقرآن نص على أن موسى جاء بتسع آيات منها (العصا، واليد، والطوفان، والجراد، والضفادع، والدم، والقمل، وانشقاق البحر، والنجاة لبني إسرائيل، وغرق الفرعون)، كل هذه آيات أيد الله بها نبيه موسى، وقال: (ولقد أريناه آياتنا كلها) أي أرينا الفرعون كل آياتنا (فكذّب وأبى)، (قال أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك يا موسى)، لقد غلبه غبائه، لو كان إلهاً لعرف الحقيقة، لكنه ليس إلا مخلوق للإله العظيم طمس الله على بصيرته، فلم يدرك إلا أن موسى يساومه على الأرض، يريد السلطان، لم يتصور الفرعون أن وراء هذه الآيات، إلهاً عظيماً هو الذي هيأها لموسى، وإنما تصور أن موسى جاء ليخرجه من الأرض ويحتل مكانه بسحره، (فلنأتينك بسحر مثله فاجعل بيننا وبينك موعداً لا نخلفه نحن ولا أنت مكاناً سوى)، بالتالي، لا بد من المواجهة، لكن الفرعون كذب فهو لا يستطيع أن يأتي بسحر كالعصا التي أتى بها موسى، ولا يستطيع أن يتحكم في الطوفان أو مواكب الجراد التي جاءت تأكل المزروعات وتشعره بأن هناك قيادة أخرى، تقود هذه الكائنات لكي تحدث مفهوم العقيدة وتؤكد وجود الله تبارك وتعالى.
بالتالي، الاستعلاء بالإيمان على قوى الأرض الحائدة عن منهج الإيمان وعلى قـيم الأرض التي لم تنبثق من الإيمان وعلى تقاليد وقوانين الأرض التي لم يشرعها الإيمان، في هذا السياق يقول سيد قطب في “معالم الطريق”: (سيد قطب إبراهيم حسين الشاذلي كاتب وشاعر وأديب ومنظر إسلامي مصري 1906 – 1966): (إن المؤمن هو الأعلى، الأعلى سنداً ومصدراً، وهو الأعلى إدراكاً وتصوراً لحقيقة الوجود الإيمانية باالله حين يقاس إلى ذلك الركام مـن العقائد الوثنية والكتابية المحرّفة وما اعتسفته المذاهب المادية الكالحة وهـو الأعلى ضميراً وشعوراً وتصوراً وخلقاً وسلوكاً، وهو الأعلى شريعةً ونظاماً)، وأما بعد أن دعا موسى فرعون إلى الإيمان وحذره من الكفر والطغيان كان موقف فرعون موقف المكذب الذي يأبى الانصياع إلى الحق وأخذ يقلب الحقائق، ويشكك في موسى ويهدد المؤمنين ويتوعدهم مستخدماً أساليب التكذيب، (ولقد أريناه آياتنا كلها فكذب وأبى)، واتهام موسى بالطمع في السلطان، (أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك يا موسى)، وهذا يدل على أن كل الطغاة في جميع العصور يتهمون كل داعية ومصلح يعارض طغيانهم وظلمهم، بأنه يريد لنفسه الحكم والسلطان وأنه لا يريد إصلاحاً ولا عدلاً، فدعوة موسى في نظر فرعون دعوة سياسية، بحسب المصطلح الدارج في العصر الحديث، لكن الأنبياء دعوتهم منزهة عن جميع الأغراض الدنيوية خالصة الله تعالى فهم معصومون بعصمة االله تعالى لهم، وهـو سبحانه الذي اصطفاهم واختارهم وهو أعلم حيث يجعل رسالته كما في قوله من سورة طه: (ولتصنع على عيني).
(فاجعل بيننا وبينك موعداً لا نخلفه نحن ولا أنت مكاناً سوى)، هنا فرعون يتحدى موسى ويطلب منه تحديد موعد، ويلتزم به، ورد موسى كما في قوله تعالى: (قال موعدكم يوم الزينة)، فقد اختار يوماً تتجسد فيه الفضيحة ويظهر فيه نور الحق، عندما تتجمع الأمة في يوم الزينة أي يوم العيد، وأن يأتي الناس في وقت الضحى تجنباً للحر، وتجنباً للظلام، والكل يقفون ويشهدون هذا المشهد الخالد العظيم الذي تواعد فيه موسى مع الفرعون على لقاء سوف تتحدث عنه آيات أخرى في أجزاءٍ مقبلة.
أخيراً، وعلى لسان الشيخ الشعراوي (محمد متولي الشعراوي عالم دين ووزير أوقاف مصري سابق. يعد من أشهر مفسري معاني القرآن الكريم في العصر الحديث 1911- 1998)، “وهل إعجاز القرآن من حيث أسـلوبه العربي أداؤه البياني فقط؟ لا، فجوانب الإعجاز كثيرة لا تختلف فيها اللغات”، فالطبيعي أن يأتي القرآن عربياً لأنه نزل على رسول عربي وفـي أمة عربية (بلسان عربي مبين)، ويطابق هذا الأمر قول مصطفى صادق الرافعي (مصطفى صادق بن عبد الرزاق بن سعيد بن أحمد بن عبد القادر الرافعي العمري معجزة الأدب العربي 1880 – 1937)، أن يأتي القرآن عربياً لأنه نزل على رسول عربي وفي أمة عربية، (القرآن الكريم ليس كتاباً يجمع بين دفتيه ما يجمعه كتاب أو كتب فحسب، إذ لو كان هذا أكبر أمره لتحللت عقـده وإن كانت وثيقـة ولأتى عليه الزمان أو بالأحرى لنفِّس من أمره شيء كثير من الأمم و لاستبان فيـه، مساغ للتحريف والتبديل من غال أو مبطل ولكانت عربيته الصريحة الخالصة عذراً للعوام والمستعجمين في إحالته إلى أوضاعهم إذا ثابت لهم قدرة على ذلك ولو فعلوه لما كان بدعاً من الرأي و لا مستنكراً في قياس أصحابنا).
بالتالي، إن المساحة التي شغلتها القصة القرآنية من كتاب االله مساحة واسعة، فإذا كان القرآن ثلاثين جزءاً؛ فإن القصص يبلغ قرابة الثمانية أجزاء من هذا الكتاب الخالد ولا عجب في ذلك، فإن القصة القرآنية لم تأت لتقرر هدفاً واحداً؛ بل ن هذا القصص كانت له أهدافه الكثيرة وغاياته المتعددة.
عبدالعزيز بن بدر القطان / كاتب ومفكر – الكويت.