الجزء الخامس …
إنها ليلة مُقمِرة تجوب في السماء النجوم ، وتتلألأ على صفحة الماء كعقد جِيداً يعكس بريقها وتسطعه ، فيها من الهدوء والسكينة وراحة النفس فوق ما تتمناه كل نفس ، شدت تلك اليلة سلوم لينام فوق سطح البيت ، يتناغم مع النجوم ويشكي للقمر وحدته ، فصعد إلى السطح وحمل معه دوشكه وبرنوصه ووسادته وقطعة حصير من خشت ، افترشه وسامر النجوم قليلا وتحدث إلى القمر ثم استسلمت عيناه إلى النعاس ، تعود سلوم كل ليلة قبل أن ينام يخلع خاتميه ويضعهما في وعاء به عطر العود المعتق ، لكنه هذه المرة وضع الخاتمين بالوعاء في الغرفة وصعد إلى السطح ، وأثناء نومه داهمته إبنة أبليس وتصورت له في حسن وجمال ورشاقة أميرة من أمراء الجاهلية ، أخذت ترقص له وتغني بثوب لا يعرف الستر ولا العفة ، فغرق بعد حين في مائه حتى أبتل وزاره ، وما هي لحظات حتى هوت عليه الشياطين وفرت به من مكانه بالسطح إلى صحراء الربع الخالي .
فتح سلوم عينيه ليجد نفسه أسيراً في سلاسل من حديد ، كل سلسلة عرضها باع وطولها باع ، والنار مشتعله تحيط به من كل جانب ، وما هي سوى لحظات حتى جاءت نسور سوداء كبيرة جداً تحوم فوق رأسه دون توقف وهي تصدر أصوات حادة وكأنها تريد أن تنقض على فريستها ، وبدأت تهوي إلى الأرض واحد تلو الأخر ، وكلما لامست أرجلها الأرض تحولت إلى أنسي من البشر ، ضحك سلوم بقهقهة عالية وهو يتابعهم واحد تلو الأخر ، قال في خاطرة .. ( هيه هذيله أنتوا .. بعدكم ما نسيتوني .. ولا حذفتوني من حساباتكم ) ، لكنه لم يكن يستطيع عن يفعل شيء سوى النظر والمتابعة ، فهو يدرك بأنه لم يعد يملك شيء من الحماية ، الخواتم ليست بحوزته ولا يستطيع أن يستنجد بآيات القرآن وهو نجس ، ويعلم كذلك بأن لحمه أصبح أكثر رغبةً من قبل ولذة لدى السحرة .
تقدم منه كبيرهم وهو يقول له .. ( كيف تو سلوم حاس نفسك أهون عن قبل ) ، ثم ضحك الجميع وكذلك ضحك سلوم لكنه لم يضحك على سخافة نكتة الساحر بل على سخافة وضعه وقوة حيلته ، فتذكر نصائح والده حمدون التي لم يكن يسمعها ويُنصت لها ، ظن في تلك اللحظة بأنه أقوى من كل المخلوقات على الأرض ، اردف الساحر الأكبر سناً منهم .. ( تو عاد من المربيات أمك أنت .. ولا أمهاتنا نحن ؟!! ، فتح عينك وشوف حواليك .. هذا نصيب من يتدخل في شي ما يعنيه ) ، قرر السحرة أن يشوه بالنار ويأكلوه وهو حي ، حتى يذق شدة الألم والتنكيل فيموت متعذباً ، ثم أمر الساحر الأكبر احدى الشياطين ليحمل سلوم ويرمي به في النار ، فإذا بطير رخ عظيم الهيبة وعريض الجسم وطويل القامة ، له مخالب كأوتاد الجبال وأسن من السيف وأنعم من الريشة ، جناحيه تسد ضوء القمر عليهم ، فيهوي عليهم ويضرب بجناحة الأيسر السحرة ويضرب بجناحة الأيمن الشيطان الذي يحمل سلوم ، ثم يغلق مخالب رجلية على جسد سلوم ويطير مبتعد وهو يصدر صيحاته بقوة لم يستطيع السحرة معها سوى ضم اياديهم على أذانهم ، ثم اختفى في لمح البصر ولم يعد احدا يراه .
يُتبع …
قصة للكاتب/ يعقوب بن راشد السعدي