تتسابق “البهجة” في المزاحيط و”جنة العريف” بغرناطة إلى عرش الجمال فالأولى يرفعها الشاعر ابن زمرك الأندلسي على عرش الحمراء والثانية تتخذها القوافي المبحرة للشاعر الشيخ خالد بن بدر المعولي “مرفأً للعز”.
ولقد سنحتْ الأقدار لأن أرتع في الجنتين الأرضيتين فأرى الغالب بالله يكسي قصر الحمراء بردة جَصٍّ خرافي فينطفئ أمامها لون عشب الجنائن ويخفت رقراق النوافير.
وأرى بهجة المزاحيط وهي بلا قصر من الجص الخرافي لتتوهَّج وحدها بجدرانها الحجرية التي تباغتها الشلالات وبتعريشاتها المفتوحة على الخزامى وشجر الفرصاد.
وكما تزاحمتْ في جنة العريف بغرناطة أشرعة سفائن طارق بن زياد وقصائد أبي البقاء الرندي وعتاب بن زيدون لولادة وزخارف “لا غالب إلا الله” لبني الأحمر المنقوشة على الجص وتألق مزهريات الورد لكسر بياض بيوت حي البيازين ، تعتلي بهجة المزاحيط شرفة خضراء على المشاهد التي تتكثف بجامع البياضة وحارة قصرى وبيت القرن وحصن الحزم فنتنفس قيد الأرض وأحمد بن سعيد وأبا عزان وبن شيخان.
كان الوقت ظهرا ساعة دخلنا جنة بهجة المزاحيط والشمس الخجلى غيبها الشجر فبرد المكان.
ومشينا تخفرنا الوجوه الباسمة لأنجال العلامة الشيخ ناصر بن راشد المنذري يتقدمهم الشيخان محمد بن ناصر المنذري وعبدالوهاب بن ناصر المنذري صاحب البهجة والمتفصل بالدعوة
فاحتوتنا التعريشة الباذخة وتنازعتنا التكايا.
كل الأحبة الذين باعدتنا عنهم مشاغل الدنيا كانوا هناك يملأون البهجة بهجة ، كالشيج الجليل الأثيل سعيد النعماني والدكتور خلفان المنذري والدكتور عبدالله المنذري والشيخ نصر بن سعيد السيابي والشيخ خلفان بن زاهر السيابي ونجله الشيخ سيف وغيرهم من الأنجال والأحفاد
ما تزال في التعريشة فسحة بين سيدي الهلال بن سالم والشيخ الدكتور محمد المنذري ولا بد أن بهجة المزاحيط تنتظر مجيئ العلامة الشيخ ناصر بن راشد المنذري تسبقة الضحكة ورائحة الجنة ، فالآباء وإن رحلوا يعودون إلى مجالسنا ليستفتحوا اللقاءات بالسؤال عن العلوم والأخبار ، ولهم التمرة الأولى والفنجان الأول.
مرت دقائق كالدهر فيا لشوقنا لسؤال الاستفتاح ويا للهفة الدلال للفنجان الأول.
دارت القهوة والفناجين الورقية التي أدخلها “كورونا” لسبلاتنا لا نشم فيها ريح آبائنا والسَّماور غيَّبَ “صحلة الغسول”.
ما تزال الفسحة في التكايا مكانها تنتطر الأطياف الخضراء في تحليقها بين الأرض والسماء ولئن طال الانتظار أم قصر سترفرف حولنا لتصيخ السمع لقصائد البِرِّ ولنبل الحكايات.
دعانا الشيخ عبدالوهاب بن ناصر المنذري للتطواف في جنة العريف أو “البهجة” كما سماها سيدنا العلامة الشيخ أحمد بن حمد الخليلي ذات زيارة كريمة للمكان.
يبدو أن أبا أفلح قد اختزل التطواف في جنائن القارات ليكثفه هنا على هذه المساحة من الأرض التي عكست روحه الجميلة وذائقته.
إنه يعبر عن اشتياقه لأبيه بكتابة قصيدة حب من ضحكة العشب وصبر الصخر ليهمهم بها المكان ساعة يخلو المكان.
مشينا ومعنا الخزامى وألوان الفرصاد ورائحة الجوافة وصمت الحجر.
وكان أبو أفلح يسرد قصة عمره مع هذه الأرض للماشين معه ، وكنتُ أتسحب رويدا رويدا من السرد لأغرق في سيرة السارد الطالب الشبخ عبدالوهاب المنذري ساعة التقيته لأول مرة في قصر القبة بالقاهرة عندما جاء يحمل لسيد عمان طيب الله ثراه أمنية أن يرى أباه الشيخ ناصر بن راشد المنذري الذي طال غيابه دون سبب موجب لحرمان الوطن من أبهى عمائمه.
كنتُ أتنقل يومها في وجوه الطلبة الذين جاءوا لقصر القبة لمصافحة سيد عمان وقد عَلَتْ وجوههم الفرحة ، إلا الطالب عبدالوهاب المنذري فكان بشوشا وهو ينزف ، وكانت مهمته في القصر تتعدى التسليم والعودة الضاحكة للدروان مع دولاب الحياة.
ولقد تكللت المساعي بالنجاح بفضل من الله وخرج والده بصبر المؤمن ليستأنف الحياة بحلوها ومرها.
ودارت الأيام لألتقي الشيخ عبدالوهاب في القاهرة مجددا وأستقلّ سيارته الهوندا بصحبة شيخنا الأثيل النعماني فنختال معا في كنانة العرب بين شارع جامعة الدول العربية والدقي والعجوزة ونادي الطلبة ونادي الصيد وشارع فؤاد والبطل أحمد بن عبد العزيز.
ودار الزمان دورته لتجمعنا زمالة جريدة عمان بل ونسافر للقاهرة في مهمة لنعود مجددا لنفس الجغرافيا وندخل معا جريدة الأهرام فيرحب بنا الأستاذ إبراهيم نافع رئيس تحرير الأهرام في نفس المكتب الذي يستقبل به الاستاذ محمد حسنين هيكل ضيوف مصر من القادة وبجوار نفس الهاتف الذي يربط الأهرام بمنشيّة البكري فينقل هيكل لعبدالناصر أخبار العالم.
ما زال أبو أفلح يسرد حكاية البهجة المتوزعة بتدرج على ثلاث مستويات لعلها تعوض غياب مزرعة المصنعة ولعل الشجر هنا يشفي من وجع شجر البيذام والأمباء هناك.
ما زلت أحلّق في عوالم السارد عن زمن عبرناه كالحلم وافترفنا فيه والتقينا ، وعند كل منعطف نتذكر عمائم آبائنا فنتبصَّر مواضع الخطوات على الدرب ونغذ السير معا لبلوغ الهدف.
ما زلنا في دروب البهجة لندخل استراحة مبهجة فنجلس أمام طاولة شطرنج لتعود الأزمنة والجريدة ، فلعبدالوهاب القطع البيضاء للشطرنج والنقلة الأولى والفرحة الأخيرة ب”كش ملك”.
حلّتْ صلاة الظهر وأذَّنتْ المزاحيط للعصر وحضرنا الخزامى وهو ينعس مع حلول المساء وشممنا شذى ملكة الليل.
وأطلّ على جلستنا قمر منتصف شعبان من خلف جبل “معول” وما زلنا أمام موائد الشيخ عبد الوهاب وحكاياته.
وفيما الساعة تقترب من العاشرة غالبنا التثاؤب فودعنا المكان وأهله وما تزال بهجة المزاحيط تتبارى وجنة العريف ، فتلك شرفة خضراء على غرناطة وهذه إطلالة خضراء على الرستاق ليفوز الجمال ولتُدَبّج القصائد.
حمود بن سالم السيابي
مسقط في ١٩ مارس ٢٠٢٢م.