تفضَّل حضرة صاحب الجلالة السُّلطان هيثم بن طارق المُعظَّم- حفظه الله ورعاه- فالتقى بأصحاب المعالي والسعادة المحافظين والولاة والمشايخ والرشداء والأعيان بدءًا من محافظة ظفار وانتهاءً بلقاء بهجة الأنظار في صحار؛ حيث تحدث جلالته- أعزَّه الله- عن رؤيته السامية لمُستقبل الوطن، واستمع إلى رؤى المشايخ والرشداء والأعيان واحتياجات النَّاس، وتفاعل جلالته- أبقاه الله وأيده بتوفيقه- معها وأصدر توجيهاته السامية بشأنها، وأمر بتنفيذ الكثير منها، ووعد بالنظر في البعض الآخر المتبقي في قادم الأيام، وحسب الإمكانيات والأولويات.
إنَّ هذا النهج المُتميز لسلاطين عُمان، يغبطنا عليه الكثير من الإخوة العرب، إن لم يكن كلهم، فهذه الحكمة العُمانية لا تسر على السياسة الخارجية وحدها؛ بل تسير في مستوى متوازٍ في الشأن الداخلي كذلك، وإن الحرص على الإرث العُماني من الأعراف والعادات والتقاليد الوطنية، فيظل مثل هذا السلوك نهج حياة وعمل، وأن السادة السلاطين البوسعيديين، لم يغفلوا يومًا عن أهمية القبيلة العُمانية في حفظ النظام والاستقرار في ربوع البلاد طولًا وعرضًا، وكما كانت القبائل العُمانية صمام أمان للوطن في الحقب الماضية ستظل هكذا، فقد كان الولاة والمشايخ والرشداء، عين ويد السلطة الطولى في الأقاليم العُمانية، يوم كان التواصل ضعيفًا بسبب التباعد الجغرافي، وصعوبة التنقل إلا من خلال البحر بالسفن الشراعية، وفي البر بالخيول والجمال والبغال، أما توصيل المعلومات والتعليمات والرسائل، فيتم بواسطة الأشخاص بمثل الطارش المُلقب بـ”العلعال”.
ومع ذلك ظلت القبائل العُمانية بقيادة المشايخ والرشداء، بمثابة القادة الميدانيين يصدُّون الغزاة الطامعين، ويؤدّبون الخارجين على النظام والسكينة العامة من اللصوص وقطاع الطرق، فيقومون بذلك الواجب على كافة ثغور الوطن المترامية الأطراف، وذلك حتى تصل الجيوش النظامية من قيادة المركز إلى مواقع الأحداث، إن تطلب الأمر وصولها، لذلك ظلت القبائل العُمانية الحصن الحصين والدرع المتين للوطن، وليس لعُمان وحدها وإنما لجوارها لمن أراد حُسن الجوار معها.
إذن؛ لا أرَ اليوم مُسوغًا مقبولًا لمن ينادي بالتخلي عن الجانب القبلي في النظام الاجتماعي العُماني، فما كان لهذا المجتمع أن يكون بهذا الانضباط والالتزام الرصين والتميز، لولا نخوة القبيلة والسَّمت والمعروف المتبادلين بين القبائل؛ فالنهج الذي يسير عليه العهد الجديد، ليس بدعًا عن الماضي التليد، والتغيير أو التخلي يكون عن الأشياء الذميمة التي تفرّق ولا تجمع، كالفرقة والعنف والتخلّف الذي سارت عليه العصبة القبلية يوم أنقسم العُمانيون إلى فسطاطين متضادّين “غافري وهناوي” فسرت تحت ظل ذلك فتنة كبرى، لم يتم وأدها تمامًا، إلا على يد طيب الذكر صاحب الوحدة العُمانية الحديثة، والنهضة العُمانية المُعاصرة، السلطان قابوس بن سعيد- طيب الله ثراه-.
إذن؛ لمثل هذا يجب أن ندعو، ولكن لا ندعو إلى إلغاء المرجعية القبلية المتمثلة في المشايخ والرشداء والأعيان؛ بل علينا أن نحترم مكانتهم، وأن نُمكّنهم من القيام بأدوارهم التاريخية، مع تقويم ما يخرج على النهج الموروث، أو يشطط عن جادة الحق، والسَّمت العُماني الأصيل، فما زالت الأعراف والتقاليد العُمانية محترمة بين النَّاس، والحقوق محفوظة من التعدي عليها بعوامل من الوازع الديني، والنخوة والعيب القبلي، فعلى سبيل المثال إذا أراد رجال السلطة إحضار شخص ما، وقد استعصى عليهم الأمر، وكان الوضع لا يستلزم استخدام القوة معه درءًا لخطر عاجل، وإن الأمور عادية جداً، فإنما الأمر يتطلب معرفة اسم الشخص وقبيلته وحسب، فيُطلب من مرجعيته القبلية، وسيحضر طائعًا؛ بل ومعتذرًا عمّا بدر منه من خطأ، وسيفعل ذلك بحشمة قبيلته وتقديراً لها ولنفسه.
إنَّ التَّمسك بالنظام الاجتماعي والإداري للدولة العُمانية، والقائم على إدارة الأقاليم لذاتها بحكم مخفف عن القائم في مركز الدولة، إنما هو تقليد مُتعارف عليه، وهو يتكون من والٍ ونوابه ومساعديه، وقاضٍ ومعاونيه، ومع بدء النهضة أضيفت إليهم مراكز للشرطة، ثم الادعاء العام، ومن ثمَّ تم تعميم نظام المحافظات والمحافظين، بعدما كان في مسقط وظفار ومسندم دون غيرهم، وأضيف إلى هذا التنظيم المجالس البلدية، ثم منحت المحافظات شيئًا من الاستقلالية الإدارية والمالية أيضًا، وذلك بهدف التّسريع في تنمية الأقاليم، وحرية اتخاذ القرارات المحلية.
وإذْ أُبدي تأييدي القوي للحفاظ على نظام المحافظات والمحافظين وتطويره، والحفاظ كذلك على النظام القبلي القائم لأنه نظام جيد ومجرّب، وليس كل شيء يأتي به الماضي يُصبح منتهي الصلاحية، طالما كان يخدم الوطن والمُواطن، وليس مبعث دفاعي هذا عن الوضع الراهن، أنَّ لي مصلحة مباشرة، ولا لأنني أنتمي إلى أيّ من القيادات الوسطى، كالمحافظين والولاة أو المشايخ والرشداء والأعيان، لكنني عايشت نظام الحكم المستقر الخالي من الفورات “التويترية” والكلام المرسل وغير المسؤول.
حمد بن سالم العلوي