احتفى القوميون والوحدويون العرب بالذكرى الـ٦٣ لقيام الجمهورية العربية المتحدة باتحاد الإقليمين الشمالي والجنوبي (سوريا ومصر) في الثاني والعشرين من فبراير؛ اليوم الذي قامت فيه الجمهورية العربية المتحدة من عام ١٩٥٨م، وقد جرى الاتفاق التاريخي بين الرئيسين جمال عبدالناصر وشكري القوتلي على تحقيق هذا الحلم؛ باعتباره لبنة أساسية لمشروع وحدة عربية، إن لم تتحقق بشكلها المعتاد، فقد تتحقق بالتعاون العربي في مختلف المجالات، وصولا إلى مرحلة الوحدة بين العرب من المحيط إلى الخليج. ولا شك أن قيام الجمهورية العربية المتحدة كان أبرز حدث عربي وحدوي في القرن العشرين، وإن كان البعض يرى هذا المشروع من الأخطاء التي حدثت في تلك المرحلة، إلا أن الحدث بحدِّ ذاته يُعد مشروعا عظيما من حيث المبدأ والفكرة والهدف. ولا شك أن الخطأ كان في التفاصيل التي أدت إلى الانفصام وانفضاض الوحدة في الـ٢٨ من سبتمبر عام ١٩٦١ بسبب المناوئين لهذا المشروع والتدخلات الخارجية، فأعلن رئيس الجمهورية المتحدة جمال عبدالناصر الانفصال، ولكن العلاقات بين مصر وسوريا بقيت نموذجا للعلاقات العربية في ذلك التاريخ. وما أجدر البلدان أن يجسدا حلم الوحدة العربية بما يحملان من مركزية وثقل عربي، وما يرتكزان عليه من أدوار تاريخية في مواجهة الأخطار المحدقة بالوطن العربي، وصد الحملات الغازية في حقب مختلفة من التاريخ، لذلك فهما جديران بتجسيد الحلم العربي .
اليوم بعد (٦٣) عاما من ذلك التاريخ نلقي نظرة سريعة على الوضع العربي وما وصل إليه الحال الذي لا يخفى على أحد من انقسام وتشرذم واختلافات ومواجهات بين العرب، وتغوُّل قوى الاستعمار في الوطن العربي، وتهميش السيادة الوطنية للدول العربية والتدخل في شؤونها ما يعني غياب الكرامة العربية، وهذا يكفي للتعبير عما يأتي بعده، إضافة إلى وجود الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين الذي شكل واقعا خطيرا ارتبط بكل المآسي العربية لاحقا .
في هذه الذكرى التي تجدد الذاكرة العربية شجونها، لن أتحدث عن الخلفية التاريخية وظروف الوحدة والمحاولات العربية سبقت قيام الجمهورية، ولكن سأتحدث عما يمثله هذا المشروع وكيف يمكن للعرب الاقتراب منه في ظل الحالة الراهنة التي تعصف بهم، فالوحدة هنا تمثل تجسيدا لحلم عربي للملايين من أبناء الأمة العربية من المحيط إلى الخليج، تجمعهم جغرافيا واحدة وتاريخ مشترك وهُوية عربية واحدة ولغة مشتركة وأنماط اجتماعية متشابهة. وعندما نتحدث عن مشروع الوحدة العربية فلا يعني ذلك ـ كما ينظر إليها بعض الأشقاء العرب من الزاوية السلبية ـ صعوبة تحقيقها بشكلها المعروف فيدراليا أو كونفدراليا، ولكن هذا الحلم قد يتجسد اليوم من خلال ربط الدول العربية في إطار مشروع الوحدة السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية وإسقاطها على مسارات العمل العربي المشترك بالشكل الذي يلبي طموحات أبناء الأمة العربية، ليتحقق المشروع بمفهومه الحقيقي وأهدافه المشروعة، وهذا يتوافق في إطار الدولة الوطنية وحفظ خصوصياتها، وتعزيز قدراتها ومقوماتها بالتعاون المشترك في مختلف المجالات، وتجسيد هذا الحلم من خلال تحقيق هذه الأهداف بشكل عملي .
يتحدث بعض الأشقاء العرب عن حلم الوحدة الإسلامية؛ باعتبار أن العرب كانوا خلال مراحل التاريخ تحت مظلة الدولة الإسلامية، وهنا يحدث تداخل في المفاهيم وينحو البعض لاعتماد السلبية في هذه الزاوية، وربما تكون هذه المفاهيم دست عن قصد للإساءة لمفهوم الوحدة. ونعود إلى المربع الأول للتأكيد على أن العرب بمختلف أديانهم كانوا تحت ظلال دولة الوحدة الإسلامية في مختلف مراحل التاريخ، والقومية العربية هنا لا تنادي بشعارات مختلفة، ولكنها ترتبط مع الجميع في إطار واحد، وتجسيد حلم الوحدة يتحقق وفق مشروع تكاملي عربي، كما يمكن للعرب مد جسور التعاون مع مختلف الدول الإسلامية الأخرى، وتحقيق شراكة استراتيجية معها في ذات الإطار وتخدم نفس الأهداف، ولكن مشروع الوحدة (ضمنيا) أولى وأجدر وأكثر أهمية للقيام على هذه الجغرافيا العربية بما تحمله من مشتركات وحدوية قوية، لا سيما أن المواجهة مع قوى الخارج لم ولن تتوقف طالما هناك احتلال لأراض عربية، وهنا تظهر أهمية الوحدة.
الحديث عن سياقات الوحدة يضع بعض العرب في الزاوية السلبية لتثبيط وتسفيه الفكرة، ولكن الحديث هنا عن الفكرة ليست مستحيلة، بل مشروعة ويمكن تحقيقها بعد تمهيد مساراتها وخطوط تأثيرها في ظل ما يواجه الأمة اليوم من مخاطر محدقة أشدها تدخل قوى الاستعمار التي تستغل هذا التفرق والاختلاف العربي، وبالتالي فإن مسارات الوحدة وآلياتها وتهيئة الظروف لها تفرض نفسها في ظل هذه الظروف التي تحتم علينا نحن العرب التفكير والسعي لسبر أغوار هذه الفكرة وتحقيق التعاون العربي المؤدي لهذا المفهوم الوحدوي الجامع .
الحديث عن فكرة الوحدة ليس إفراطا في التفاؤل وليس إغراقا في الأحلام أو الأوهام، ولكنه هدف نبيل ومشروع يجب على العرب العمل على تحقيق مساراته المختلفة، كما أن الطريق ليس مفروشا بالورود لكنه يتطلب كفاحا ونضالا كبيرا في ظل هذه الأوضاع العربية المتفاقمة، وهذا يتطلب جهودا عربية صادقة ينبغي أن يتبناها النظام الرسمي العربي درءا لمزيد من الأخطار المحدقة بالمنطقة ومواجهة قوى الخارج ومشاريعها الاستعمارية.
لا شك أن التدخل الخارجي ماثل للعيان، والاختلاف العربي واقع على الأرض، والاحتلال ماضٍ في سياسته “فرق تسد”، وضعف القوى الشعبية العربية في تقويم ومساندة الفكر الوطني وتعزيز الفكر القومي العربي، وغياب الرابط بين الوطني والقومي وتهميش قوى الشعب، كلها أسباب قوية مانعة وإكراهات تجبر الواقع الرسمي والشعبي العربي على تحقيق الترابط بينهما، ولا يمكن تحقيق مشروع أمة دون شراكة حقيقية، فالدول تقوم على قاعدة مثلثة بين الشعب والأرض والمؤسسات، ولا بد من تحقيق التواؤم والشراكة والتكامل بينهما، كما أن إبراز الدور المحوري لبعض الدول المحورية وتعزيز قدراتها من الأهمية القصوى في اضطلاع هذه الدول بأدوارها التاريخية المحورية التي لا يمكن لغيرها القيام بها، وهنا يتجسد مفهوم القيادة، كما أن الظروف التي يمر بها العرب اليوم تتطلب عملا جبارا لاستعادة العلاقات الطبيعية والتقريب بين الدول العربية، وهذا بحدِّ ذاته يُعد من أكبر العقبات التي تواجه الأمة اليوم، ولو نظرنا للتجربة الأوروبية وما دار بين الدول الأوروبية من حروب انتهت آخرها قبل سبعة عقود، ومنذ نهاية الحرب العالمية الثانية وإلى اليوم تسير دول أوروبا في منظومة مشتركة من الوحدة في كل المجالات، فلا يجب أن نستغرق نحن العرب في استعراض المعوقات والعقبات، وتثبيط أنفسنا عن تحقيق هذا المشروع الحيوي، بل العمل بهذا الاتجاه إن رغبنا في البقاء وتصويب اتجاه البوصلة قبل فوات الأوان .
خميس بن عبيد القطيطي – كاتب عماني