ربما لم يبحث الكثير من أبناء الأمة عن مشروع الإبراهيمية أو المشترك الإبراهيمي الذي يرتبط جغرافيا وديمغرافيا وسياسيا واقتصاديا بالمشرق العربي امتدادا إلى تركيا وإيران. والتجارب السابقة لنا كأمة عربية مع الاستعمار الغربي كانت كافية لتقديم أحكام مسبقة لكل ما يقدم من مشاريع في أروقة القرار السياسي لدى هذه الدول منذ الحملات الصليبية، مرورا بفترة التداعي على المنطقة بعد النهضة الأوروبية والتحكم بطرق الملاحة الدولية، وصولا إلى مرحلة الاستعمار، وانتهاء بالاحتلال الإسرائيلي، وما يسوَّق بين فترة وأخرى من مشاريع تخدم هذا الاحتلال الذي يتحكم بمجريات السياسة الدولية، وتوظف المشاريع في الشرق الأوسط لصالحه، وكلها مشاريع تتسق مع بعضها البعض في إطار استعماري واحد، منها مشروع الشرق الأوسط الكبير، ومشروع صفقة القرن، ومشروع الضم الذي يتلخص بضم مناطق شاسعة من الضفة الغربية ومناطق غور الأردن لصالح كيان الاحتلال الإسرائيلي، وأخيرا وليس جديدا مشروع المشترك الإبراهيمي الذي يبدو في ظاهره البحث عن المشتركات والقيم الإنسانية الجميلة لما يسمى بالإبراهيمية، وإسقاطها على الواقع السياسي والديني في منطقة المسار الذي سلكه سيدنا إبراهيم عليه السلام في رحلته من حدود تركيا وصولا إلى مكة بما فيها مصر وإيران، وقد يتوسع المشروع وفق ما قدم من دراسات ليشمل إفريقيا وبعض الدول الأخرى ليغطِّيها هذا المشروع الاستعماري الزاحف على المدى البعيد لنشر الديانة الإبراهيمية المستحدثة أو المشترك الإبراهيمي الذي يحاول الجمع بين سكَّان هذه المناطق في دائرة سياسية واحدة وفقا للقيم والمشتركات الإنسانية التي تجمعهم بسيدنا إبراهيم أبي الأنبياء عليه السلام، ونشرا للتسامح والقيم الإيجابية الروحية، واختيار ما يناسب من مشتركات في الديانات السماوية الثلاث التي تغطِّي هذه المساحة الجغرافية، وهي اليهودية والمسيحية والإسلام، واليهودية هنا لا تعترف بما جاء بعدها من ديانات رغم اعتراف الأديان الأخرى بها .
السياق أعلاه استعرض وصف الإبراهيمية من زاوية المؤامرة، وهذا هو الواقع المنظور الذي قدمته لنا التجربة الغربية في المنطقة، وللحديث بشكل أكثر تفصيلا عن مشروع المشترك الإبراهيمي الذي جاء وفقا لدراسات قامت بها لجنة الدراسات الإبراهيمية في جامعة هارفرد كبرى الجامعات العالمية والتي ترتبط مع دوائر القرار العالمي وفقا لدراسة قدمتها الدكتورة هبة جمال الدين حول الإبراهيمية كدين جديد يعيد رسم الخريطة السياسية في الشرق الأوسط، كما أن هناك عددا من المفكرين والسياسيين والدعاة الذين تطرقوا لهذا المشروع، وكل ما تم تقديمه من دراسات وأبحاث ومقالات قدم من زاوية التآمر الاستعمارية، وهو ليس بجديد في العلاقة بين الشرق العربي الإسلامي والغرب على العموم، واتفاقية سايكس ـ بيكو ووعد بلفور وسان ريمو التي نتذكرها في مئويتها، لا شك أنها كافية للتحذير من هذه المشاريع حفاظا على هذه الجغرافيا التي ما برحت منذ قرون تواجه هذه المخططات وحفاظا على مستقبل الأجيال القادمة، وتقديم التحذيرات مما يسوَّق لنا في مطابخ السياسة الدولية، وبالتالي يدرك القائمون على هذه المشاريع حساسية تقديم أي مشروع في إطار سياسي وارتياب أبناء الأمة العربية بالذات منه، بالإشارة إلى الخلفية التاريخية السابقة المليئة بالمؤامرات، لذلك تم تقديم هذا المشروع في إطار مختلف يقوم على المشترك الإبراهيمي نظرا لما يربط أبناء المنطقة عموما بسيدنا إبراهيم عليه السلام، وانتقاء القيم السلوكية الإنسانية الجميلة لتقديمها كعرض مغرٍ في سبيل تسويق هذا المشروع أو المعتقد الإبراهيمي، كما يحلو توصيفه أحيانا. علما أنه لا يوجد على الإطلاق دين يسمى الإبراهيمية، ولا يمكن جمع هذه الأديان في إطار واحد عدا فكرة الوحدانية لله، وبعض هذه الأديان لا تتفق حول ذلك في بعض العقائد المحرفة .
واستكمالا لما سبق حول بداية تقديم مشروع الإبراهيمية والتي سبق أن ظهرت في الأفق السياسي عام ١٩٩٠م لحل النزاع العربي الإسرائيلي، وبدأت تتشكل فكرتها في أروقة السياسة الدولية، من خلال عدد من المؤسسات البحثية على رأسها لجنة الإبراهيمية التي قدمت في جامعة هارفرد كبرى الجامعات العالمية والمرتبطة مع مراكز القرار السياسي في العالم كالخارجية الأميركية والبنك وصندوق النقد الدوليين، إضافة إلى عدد من المؤسسات العالمية كمعهد الحرب والسلام وجامعة فلوريدا وغيرها لتقديم الفكرة بكل تفاصيلها خدمة للمشروع الاستعماري في المنطقة. وتقوم الفكرة على سيادة المشترك الإبراهيمي على المنطقة الجغرافية المذكورة أعلاه من خلال انتقاء كل المشتركات وتوظيفها في كتاب واحد تضفى عليه قدسية خاصة، بحيث يتم تجاوز الحدود السياسية، وتجاوز النظم السياسية، وتكون الأولوية فيه للمعتقد الإبراهيمي الجديد، مع استبعاد كل الجوانب السلبية التي تحض على القتال والعنف، وهنا تبدو جمالية الصورة للمشترك الإبراهيمي، ولكن في النهاية لا يعترف أو بالأحرى يتجاوز التشريعات التي وردت في الديانات الثلاث وتثبيت المشترك الإبراهيمي ككتاب وديانة جديدة مقدسة تلغي ما سبق، وتخفي وراءها مشروعا استعماريا خطيرا يطبخ على نار هادئة لمحاولة تمريره في المستقبل .
تمت الإشارة لفظيا (فقط) في عدد من المبادرات السياسية بالمنطقة مؤخرا لإضفاء مع هذا المشروع صفة معينة، وبدأ الحديث عنها خصوصا ما يتعلق بمشاريع التطبيع التي نادت مؤخرا بالمشترك الإبراهيمي، وقد جاز تسميتها في بعض الاتفاقات الأخيرة باتفاق إبراهيم الذي يراد الإشارة إليه بجمع الديانات الثلاث في إطار السلام والتعايش والتسامح والقيم الإنسانية، مع استبعاد بعض الجوانب السلبية التي شوهت العلاقة مثل الصراعات وإنهاء لهذه الإشكالات لا بد من العودة للديانة الإبراهيمية الجامعة التي تجمع سكان هذه الأرض وتمرير هذه الفكرة؛ لكي تكون الأرض والموارد مشتركة لا تحمل أي صفة سياسية قومية أو وطنية، وبالتالي يحق لجميع قاطنيها الاستفادة منها وفقا لهذه الخريطة السياسية الجديدة، مما يعيد للأذهان مشروع “إسرائيل” الكبرى التي تتفق تماما مع هذه الخريطة السياسية من النيل إلى الفرات، وتم إشراك تركيا كواجهة إسلامية يتم تسويقها لقبول المشروع، إضافة إلى إيران لوجود مساحة كبيرة من الثروة النفطية والغازية بها، وبالتالي يكتمل المشروع وفق أجندته السياسية للسيطرة على المنطقة من قبل القوة الأكثر نفوذا وهي “إسرائيل” .
إن المتتبع والقارئ العربي قد لا يستغرب مثل هذه المشاريع ومدى حرص دوائر القرار الدولية على تنفيذها، بل والمثابرة واللهاث الكبير خلفها لإتمامها. وقد تحدث كوشنير في مقابلة سابقة مع محطة سكاي نيوز في الـ٢٨ من فبراير ٢٠١٩م عن الإبراهيمية بشكل مقتضب، وهناك العديد من السياسيين الذين أشاروا للفكرة في معرض حديثهم خلال مناسبات سابقة مثل هيلاري كلينتون التي عملت منذ عام ٢٠١٣م على تسويق هذه الفكرة والرئيس باراك أوباما وعدد من أقطاب السياسة الدولية في العالم مثل توني بلير، وما زالت تصدَّر لنا حتى اليوم بثوبها الجميل، وقد وجدت بعض التعاطي الرسمي على الأرض العربية من خلال بعض الأعمال التي أقيمت من أجلها كالمعبد الإبراهيمي، ومحاولة حذف بعض الآيات والأحاديث من المناهج الدينية التي قد تفسر بشكل خاطئ مما يترك في ذهنية الأبناء مشتركات سلبية لا يراد لها الظهور حتى وإن كان الإلغاء على حساب القرآن والسنة المحمدية وذلك توازيا مع هذه المشاريع .
خلال الأسبوع المنصرم أصدر الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين ورابطة علماء المسلمين بيانا تحذيريا استباقيا للتحذير من خطورة هذا المشروع على مستقبل الأمة، هذا المشروع الذي يراد له الظهور في السنوات القادمة لتسويق وتحقيق أجندة الغرب في المنطقة، والمساعدة على تحديد خريطة جديدة للمنطقة تتسيدها إسرائيل بإلغاء الحدود السياسية الحالية، وذلك خلافا لما كان الحديث حوله من التزام دولي بحل الدولتين في الأراضي المحتلة والعودة إلى حدود الرابع من يونيو ١٩٦٧م، وتأكيد هوية القدس كعاصمة لفلسطين، وحق العودة وغيرها من القضايا التي استغرقت أكثر من خمسة عقود منذ ٦٧م حتى اليوم لإنهائها، لذلك تنتقل بنا هذه المشاريع من فكرة إلى أخرى أخطر منها، وعلينا ككتَّاب وباحثين الإشارة إلى هذه المشاريع والمخططات وكشفها، وقد أحسن بعض الدعاة والسياسيين والمفكرين العرب التركيز على مشروع المشترك الإبراهيمي وما يسمى الدبلوماسية الناعمة والقيم الروحية، وكلها مفردات براقة تقود إلى مشاريع استعمارية تعنى بحياة الأجيال القادمة، وتهدد المستقبل الديني والسياسي والاقتصادي والديموغرافي والهوية الوطنية والقومية لأبناء الأمة العربية عندما يحل بدلا عنها المشترك الإبراهيمي بمعتقداته المستحدثة لتسود الأرض والجغرافيا العربية وفقا لهذا المشروع، ويستلم زمام القيادة والإدارة كيان الاحتلال بكونه الأقوى في المنطقة، وهكذا هي مشاريع الصهيونية العالمية تصدر للمنطقة بكل وضوح ودون مواربة مستغلة نفوذ القوى الكبرى في المنطقة وضعف الأنظمة السياسية لتمرير مشاريعها الاستعمارية.
وختاما نؤكد على أن الخير باقٍ في هذه الأمة إلى يوم القيامة كما ذكر، وأنها قادرة على مجابهة أي مشروع استعماري جديد كما سبق لها أن وقفت في وجه المشاريع والصفقات الأخيرة منذ الحديث عن مشروع الشرق الأوسط الكبير في بداية الألفية إلى مشروع صفقة القرن ومشروع الضم في الفترة الأخيرة، وكلها مشاريع تتسق مع مشروع “إسرائيل” الكبرى، ولكن هذه المجابهة لا تعني توقف هذه المشاريع، بل تكرار مساعيها الدائمة حسب المعطيات الزمانية والمكانية والظرفية لتمرير هذه المشاريع ولكنها تصطدم بملايين البشر من أبناء الأمة في رفض هذه المشاريع وكشفها ومجابهتها بقوة، وكما فشل كيان الاحتلال الإسرائيلي خلال العقود الماضية الأخيرة في تحقيق انتصارات على الأرض بفضل قوة المقاومة واستنساخها مع الزمن، فإنه مهما تكررت المحاولات بأي شكل من الأشكال في تنفيذ أجندته سيفشل، والمشاريع التي تم تسويقها منذ بداية الألفية رغم تعدد أشكالها لم تجد طريقها إلى النجاح، ولن يتم الاعتراف بكيان الاحتلال طالما كان هناك احتلال لأراضٍ عربية واغتصابا للحقوق ومحاولة لتجاوز مسارات الحل النهائي، فعودة الحقوق كاملة هي وحدها التي تعيد السلام والأمن للمنطقة والعالم .