لا صوت يعلو هذه الأيام فوق صوت ارتفاع الأسعار، وتدهور سعر صرف الليرة السورية، وأرقام بورصات المواد الغذائية، التي ترتفع يومياً من دون قدرة لدى المواطن العادي على تفسير ما يحصل، وتحمل نتائجه القاسية جداً، والتي أوصلت الكثيرين إلى طرح الأسئلة الصعبة علينا كمحللين وكمنخرطين بالشأن العام للإجابة عليها، والأهم هو ابتكار الحلول التي بالطبع تخفف، ولكنها لا توجد حلولاً جذرية لما نعاني منه، وأرجو أن يتسع صدر الحكومة لما سأطرحه، لأنه يأتي من باب محاولة البحث عن حلول، وليس الشكوى و«النق» على طريقة الفيسبوك، وإن كان من حق الناس أن تصرخ، وتعلي الصوت، ولكن في الوقت نفسه علينا لا بل واجبنا الوطني والأخلاقي عدم الجلوس والتفرج على شعبنا العظيم وشبابنا وبناتنا وأهلنا يعانون كما نعاني جميعاً، السؤال ما الحلول الممكنة؟
في الإجابة على سؤال الناس جميعاً من يتحمل مسؤولية ما وصلنا إليه الآن؟؟ تذهب قوى العدوان الفاشي على بلدنا وشعبنا لتكثيف حربها النفسية علينا جميعاً من خلال التقارير، والدراسات والأفلام القصيرة، التي تضخ بشكل متصاعد ومتواتر، بهدف تأليب الرأي العام على الدولة والحكومة والرئيس بشار الأسد، والقول إن النظام السياسي في سورية، وانعدام الحريات والديمقراطية هي السبب، وإنه لو قبل الرئيس الأسد ببرلمان فيه حصة لأميركا وحصة لبريطانيا وحصة لفرنسا وحصة لتركيا، وقطر والسعودية، لانفتحت صنابير إعادة الإعمار، ولـشبع الشعب الخبز، وأصبحت محالنا التجارية مليئة بالبضائع، وهو وهم يحاول البعض الترويج له! لا بل إن البعض ذهب باتجاه الحديث عن التطبيع مع العدو الصهيوني كمخرج لذلك! ألا ترون معي كم هو عدد المقالات التي تنتشر كالفطر في صحف البترودولار عن التطبيع والمفاوضات كمخرج لما نحن فيه، هل هذا صدفة أم إنه مبرمج ضمن إطار الحرب النفسية التي تتصاعد مع اقتراب الاستحقاق الرئاسي في سورية صيف هذا العام.
كي لا نضلل مرة أخرى خذوا مثلاً ما يسمى «التجربة التونسية» التي صدعوا رؤوسنا بها، ولنقرأ ما يكتبه الصحفي التونسي لطفي النجار في أسبوعية «الشارع المغاربي» الصادرة في 23 شباط الماضي تحت عنوان «اللهم عجّل بالإنقاذ فقد انقطعت حلول الأرض»، يقول النجار: «لقد طفح الكيل فعلاً، بعد أن انسدت الآفاق في ظل تناطح رؤوس الحكم وصراعاتهم العابثة حول مربعات نفوذهم، ومجالات سيادتهم، وغرق البرلمان في معارك دونكشوتيه لا تنتهي.. تونس تغرق ولا مؤشر أمل في الأفق، 70 مليار دينار ديون عائلاتها وأسرها، ومعدلات البطالة 20 بالمئة، وإفلاس ثلث شركاتها ومؤسساتها الصغرى والمتوسطة، وعجز موازنتها الحكومية للعام 2021 (53 مليار دينار) مقدر بـ15 مليار دينار، بالتزامن مع رفض صندوق النقد الدولي لإقراضها المال بعد أن تم تخفيض تصنيف تونس 8 مرات من قبل وكالات التصنيف العالمية».
تونس نموذج روج له، وهذا هو حاله من دون حرب حقيقية عليه، وإن كانت تخاض من خلال الإخوان المسلمين (النهضة) لإذلال البلاد والعباد، فما بالكم سورية التي تواجه منذ سنوات عشر أقذر حرب تشن على شعب ودولة، وما تزال مستمرة، والآن تأخذ منحى التجويع من أجل التركيع، من احتجاز الثروات الوطنية (النفط) وسرقتها، إلى احتجاز القمح وحرقه، والمساومة عليه، إلى المياه، إلى استهداف خطوط الغاز والكهرباء، وتدمير البنى التحتية، إلى الحصار الخانق، وإغلاق أسواق التصدير، وتجفيف منابع العملة الصعبة، وإفلاس البنوك اللبنانية في أكبر عملية نصب في التاريخ الحديث، أضف إلى ذلك حرق محاصيل الساحل السوري، وتدمير الثروة الحيوانية، والحصار ومنع الدواء في مواجهة كورونا.
تقول بعض المصادر الاقتصادية إن خسائر سورية الاقتصادية منذ عام 2011 تاريخ بدء الأحداث، وصلت إلى 530 مليار دولار، وهناك من يتحدث عن أرقام أكبر بكثير.
لنكن واضحين مع أنفسنا، شعبنا، ذاتنا، لنطرح السؤال بوضوح شديد من المسؤول؟ والجواب بوضوح: الولايات المتحدة الأميركية، دولة الإجرام والقتل والإرهاب، وتصفية الشعوب وكسر إرادتها، هذا ما يجب أن نعرفه ونعلمه ونشحذ الهمم لإزالة هذا الكابوس.
لا حلول بتغيير الحكومات، والمسؤولين فقط، وإن كان هذا عاملاً مؤثراً نسبياً على الأداء، ولكن الحلول بمقاومة، وطرد هذا الطاعون الأميركي، وهذا المجرم الذي يربض في التنف، ويتمدد في محاولة لخنقنا وإركاعنا، وتجويعنا، لأنه في حالة هستيريا من صمودنا الأسطوري، وثباتنا، وتحملنا، وريثما تنضج الظروف لتحقيق ذلك، والتي أعتقد أنها بدأت تنضج أكثر فأكثر، ماذا نحن فاعلون؟
أصدقكم القول إنني كنت أفكر البارحة ليلاً بالجيش العربي السوري البطل، وتماسك هذه المؤسسة، وقدرتها على التكيف السريع، وعلى التحكم والسيطرة والتكتيك، والإستراتيجية، والأهم هذا المخزون الروحي الوطني الإنساني، الذي قدم آلاف الشهداء والجرحى وما يزال، بصمت، بهدوء، بشجاعة، ببراعة، بقوة، بحماسة لم تتوقف، ولم تضعف، وفي وقت نرى جنوداً وضباطاً يحتضنون علم بلادهم ويرفعون شارة النصر لشعبهم في أقسى الظروف الجوية، نرى مظاهر باذخة لدى آخرين تعبر عن فراغ هؤلاء وتفاهتهم وقلة أدبهم، وضعف انتمائهم، فلماذا هذه الصور المتناقضة؟ ببساطة لأن المؤسسة العسكرية دربت، علمت، أنشأت عسكرييها على «وطن، شرف، إخلاص» وعلى القسم بالدفاع عن أرض الوطن براً، بحراً، وجواً، والسؤال هنا: لماذا لا نفرض على كل مسؤول اقتصادي عن قوت الناس أن يقسم يمين الولاء، والإخلاص، والشرف بالحرص على المال العام، وخدمة شعبه، سؤال بريء وصعب، ولكنه ممكن!
ولأننا نتحدث عن الجيش وتضحياته الهائلة، وقدرته على أن يحظى بإجماع السوريين كلهم، وباحترامهم، وتقديرهم، ودينهم التاريخي في رقابنا جميعاً، أسأل لماذا لا تحظى المؤسسة الاقتصادية المسؤولة عن قوت الناس بالقدر نفسه من الاحترام والتقدير في الشارع السوري؟ ومن هنا فإنني سوف أقدم اقتراحاً علّه يحظى بالدراسة من قبل من يعنيهم الأمر، وهو أخذ تجربة الجيش العربي السوري كنموذج تنظيمي واضح، وتشكيل «هيئة أركان اقتصادية» أسوة بالمؤسسة العسكرية لتحديد المسؤوليات، والتوقف عن تقاذفها، وابتكار الحلول، كأن تكون ضمن هيئة الأركان هذه «غرفة خاصة بالمواد الغذائية وإيصالها لمستحقيها ما بين وزارات عدة ومؤسساتها، تقترح القرار لرئاسة الأركان الاقتصادية وتتحمل مسؤوليته، وغرفة خاصة بالمحروقات، وغرفة خاصة لسعر صرف الليرة، وغرفة خاصة بالتمويل المصرفي… الخ»، ونماذج عديدة يمكن ابتكارها وفقاً للحاجة، شرط توافر ديناميات جديدة لاتخاذ القرار، وتحمل المسؤوليات، وحصد النتائج، لأن الواقع الحالي يقول إن هناك لجاناً متخصصة في هذه الأشياء كلها، لكنني من خلال معرفتي البسيطة أرى أنها بطيئة بسبب ترهل الجهاز البيروقراطي وحلوله الكلاسيكية في زمن استثنائي، ولهذا نحن بحاجة للابتكار والتفكير بحلول من خارج الصندوق، وخاصة أن السؤال الذي يطرح دائماً أن نمط المياومة لم يعد يجدي نفعاً، وأنه لابد من التركيز على القطاعات كأن نقول قطاع الطاقة: كهرباء-نفط-غاز… الخ، قطاع الخدمات، وهكذا، والمهم هنا هو حصر المسؤوليات ومن يتحملها، إنفاق الموارد وإدارتها بشكل مفيد، وتحديد أين نحن الآن، وإلى أين نريد الوصول ولو بالطبع على شكل خطوات محسوبة، قصيرة، ولكن يشعر بها الناس مباشرة.
أدرك أن القرار السياسي موجود والمتابعة تتم على أعلى مستوى، والإرادة موجودة، لكن البنى التنظيمية، وحشد الطاقات، والموارد، وديناميات العمل بطيئة جداً، وغير قادرة على التشبيك بين بعضها، ولا تلمس الناس آثاراً مباشرة لها، ومن هنا لابد من «هيئة أركان اقتصادية» تستنفر الطاقات والموارد والخبرات، وتوظفها بالشكل الصحيح، ونبتعد من خلالها عن الأنانيات، والرؤى الضيقة، لننتقل إلى الرؤى الشاملة القطاعية التي توجد حلولاً تخفيفية، ممكنة، المهم تحقيق النتائج العاجلة، ومعرفة من يتحمل المسؤولية، وعليه تحملها، وعدم الهروب منها كي تتكامل جهودنا الاقتصادية مع جهود جيشنا، وتحمل شعبنا الأسطوري، وأنا على ثقة بإمكانية ذلك، وإن لم يكن ممكناً، فعلى الأقل لنطور الآليات الموجودة باتجاه أكثر دينامية، وقدرة على المواكبة، والتخفيف عن شعبنا وأبنائنا في كل مكان.
إن الواهمين والمراهنين على إركاعنا عبر تجويعنا سوف يفشلون بالتأكيد، ويجب أن يعلموا ذلك فنحن لن نتراجع عما ضحينا لأجله مهما فعلوا، وسنهزمهم كما هزمنا القتلة والإرهابيين، سنقهر محاولات التجويع بالإرادة، والتخطيط، والتكاتف، وما علينا سوى المبادرة والعمل، والتخلي عن السياسات التبريرية التي لا تصلح في زمن الحروب الوجودية، حيث لابد من ابتكار الحلول مهما كانت صعبة.
د. بسام أبو عبدالله
صحيفة / الوطن