“العظماء في بعض الأمور قد يتساوون مع سواد الناس في كثير من الأمور وقد ينزلقون إلى أخطاء فادحة”، من رحم التفاعلات السياسية والأيديولوجية التي كانت تهيمن على المشهد العربي، خلال النصف الأول من القرن العشرين، بزغ نجم شخص مميز كانت كتاباته تهتم بالشأن الوحدوي، إنه ساطع الحصري، فيلسوف القومية العربية.
(إننا ثُرنا على الإنكليز، ثُرنا على الفرنسيين، وثُرنا على الذين استولوا على بلادنا وحاولوا استعبادنا. كرّرنا الثورات الحمراء عدة مرات، وواصلنا الثورات البيضاء عدة عقود من السنين، وقاسينا في هذا العمل ألواناً من العذاب، وتكبدنا أنواعاً من الخسائر، وضحينا كثيراً من الأرواح. ولكننا عندما تحررنا من نير هؤلاء، أخذنا نُقدّس الحدود التي أقاموها في بلادنا بعد أن قطعوا أوصالها، ونسينا أن تلك الحدود إنما كانت حدود “الحبس الانفرادي” و”الإقامة الإجبارية” التي كانوا فرضوها علينا)، كلمات ساطع الحصري العربي الذي ينتمي إلى أمة عربية شاملة.
“ماهي القومية؟”، و”محاضرات في نشوء الفكرة القومية”، عناوين كتب أبدع فيها ساطع الحصري من خلال الطرح العميق والنقد البنّاء لأي مضامين خاطئة والتي بطبيعة الحال قادته إلى مؤلفيه الآخرين “العروبة بين دعاتها ومعارضيها” و”آراء وأحاديث في القومية العربية”. وقبل التعمق في هذه الشخصية لا بد من التعرف عليها عن كثب، وما شدني الإنتماء العروبي هي صدفة أم خطوات مدروسة، لكن اتحاد العواصم العربية في شخصية واحدة أمر محفز على الوحدة التي يطمح لها كل عربي، ساطع الحصري ابن مدينة حلب السورية في الأساس، ومن مواليد صنعاء – اليمن، ومدفنه في بغداد “مدينة السلام” – العراق، هل لاحظتم العراقة كما لاحظتها؟ّ!
ساطع الحصري
هو ساطع بن محمد هلال الحصري من مواليد صنعاء العام 1879 – وفاة 1968 بغداد – العراق، وبين هذه الأعوام دأب خلال سنوات حياته في الكتابة والتأليف التي بدأها بتركيا، حيث درس بمعاهدها وعمل فيها، وشغل عدداً من المهام الرسمية، وفي سنة 1919 انتقل إلى الاستقرار بسوريا وبنى علاقات قوية مع نخبتها الثقافية والسياسية، حيث تولى مسؤولية وزارة التعليم، كما انتقل إلى العراق وشغل مهام تربوية وتعليمية من أهمها منصب مساعد لوزير المعارف، وضع المناهج التربوية في سوريا والعراق، كما شارك في تأسيس كلية الحقوق في جامعة بغداد وكان مستشاراً لدى جامعة الدول العربية، لنكون في حضرة أستاذ ومؤرخ سوري وابن أحد مؤسسي الفكر القومي العربي، كان مهتماً بالفكر العربي والوحدة العربية، وحظي بتكريم من الرئيس جمال عبد الناصر بتعيينهِ مديراً لمعهد البحوث والدراسات العربية في القاهرة.
الفكر القومي
إن المناصب التي أبدع بها الحصري كانت منطلقاً لتوسيع أفقه ونظرته الفكرية وطرحها من زوايا أوسع، وأصبح شخصية درسها الغرب قبل العرب، وأطلقوا عليه اسم “ساطع الحصري رائد المنحى العلماني في الفكر القومي العربي”، وهنا لا بد من ذكر ملاحظة مهمة، أن الغرب اعتبر الحصري قد استبعد الدين من فكر القومية، لكن الحقيقة أنه دعا إلى قومية عربية لكن لا تتعارض مع الدين وهناك فرق كبير بين المعنيين، فلا ننكر أنه كان من التنويريين الذين رفعوا الانتماء الوطني والقومي فوق كل الانتماءات الأخرى، لكن لسبب مهم وهو اعتبار الهوية العربية هوية جامعة تضم كل العرب على مختلف مشاربهم وأطيافهم وانتماءاتهم ومصدر قوتهم وتقدمهم بين الأمم والقوميات في عصر التكتلات الدولية، وهنا الفرادة في الطرح، على عكس المنغلقين اليوم الذين يروجون لاتجاه واحد، متناسين أو متغافلين على أن هناك الكثير من الناس يتشاركون معهم في الوطن.
وبالتالي، إن رفع لواء القومية العروبية، عبر المناداة بالرابطة القومية ومقارعة العقل الطائفي ورفع لواء المواطنية والعروبة الجامعة في كل الساحات العربية من بغداد إلى دمشق إلى القاهرة، فالطائفية المريضة سبب كل داء وبلاء حل بالأمة، فكما كان المشرع والفقيه يهتم بمقاصد الشريعة للحصول على علوم شرعية وأحكام سديدة، بدءاً من اللغة، كذلك كان الحصري، فلقد رأى أن اللغة والتاريخ هما المقومان الأهم لتكوين الأمة والقومية، وهما اللذان يؤثران أشد التأثير في تكوين القوميات، لأن اللغة هي بمثابة روح الأمة والتاريخ هو بمثابة شعورها وذاكرتها.
وفي نظرته للدين، اعتبر أن هناك أمماً عربية لكنها غير مسلمة، وأمماً إسلامية لكنها غير عربية، فالقومية لا تتعارض مع الدين إنما الفكر القومي هو الإجماع كما أشرت أعلاه عبر هوية وحدة وطنية، لقد حرص الحصري على التمييز بين الوحدة القومية وبين الأخوة الدينية، معتبراً الدين واللغة والتاريخ أهم العوامل التي تؤثر في تكوين الأمم، فالحصري لم يجعل الفكرة القومية في تضاد مع الدين، بل أن تنأى به عن التسييس. وبالتالي تميز الفكر العربي الحديث والمعاصر حيث تجنب المفكرون العرب الخوض في المسائل الدينية، فظلوا بعيدين عن الإلحاد، ورأوا أن الخوض في الدين أمر لا طائل فيه. وعليه، نظر الحصري إلى الأمة كوحدة عضوية تمسكها روابط اللغة المعززة بالتاريخ، ودعا إلى سيادة الكيان الجماعي للأمة على الفرد، طارحاً جانباً مسائل التفاوت الاجتماعي والاقتصادي باعتبارها خطوة تتسبب في الشقاق وتسبب خراب الأمة، ما أبقى فكره القومي بلا أي محتوى اجتماعي أو اقتصادي.
قال ساطع الحصري: (إنني أعتقد اعتقاداً جازماً بأن الوحدة العربية ضرورية لحفظ كيان الشعوب العربية كما أعتقد أنها طبيعية بالنسبة إلى حياة الأمة العربية وتاريخها الطويل).
الحواجز والعوائق
إن مسألة الوحدة العربية مسألة معقدة، فالحدود بين الدول برأي الحصري هي حدود مصطنعة من صنع الاستعمار الذي سعى إلى إثارة الخلافات وتقوية النزعة الإقليمية بشتى الوسائل. كما أن ثمة طائفة من الزعماء والحكام نزعت إلى المحافظة على كيان الدولة القطرية ولا ترضى بزواله لصالح دولة الوحدة.
وبالتالي إن الوحدة في فكر الحصري هي الوحدة السياسية بين الأقطار العربية، ورأى أنه ليس ثمة تعارض بين الوحدة العربية والرابطة الإسلامية أو الرابطة الوطنية أو غير ذلك من الروابط، فقد أيد الحركات التوحيدية على نحو ما شهدته سوريا ومصر والسعودية وليبيا وتحمس للجامعة العربية في بدايتها، فكان مشروع الوحدة في وعي الحصري هو المشروع نحو المستقبل، وفي ذلك يقول: (أن ثمة خيالاً هو أشد حيوية من الواقع… فالخيال قد يحمل في أحشائه الاستقبال الحقيقي وأعتقد أن فكرة العروبة والاتحاد العربي من هذا النوع من الخيال).
أخيراً، إن أفكار ومواقف الحصري، تجعل منه على الرغم من الثغرات الأيديولوجية في فكره السياسي والاجتماعي، رائداً كبيراً من روَاد الفكر القومي العربي ومناضلاً دؤوباً من أجل وحدة العرب، ما يصحح الاتجاه نحو تحقيق الأهداف العربية الخائبة، وإعادة التفكير مجدداً بالمستقبل العربي المهدد، رحل عنا هذا الفيلسوف الذي تمكّن من العودة إلى القومية، مؤمناً بقيام الوحدة العربية يوماً ما، وذلك رغم العوائق التي تقف أمامها، مخلّفاً أكثر من 50 كتاباً عربياً، معظمها عن فكرة القومية العربية، ومبتعداً عن إقحام الدين في السياسة، قد يكون من الذين ظلموا تاريخياً، وهنا نحن قمنا بالإضاءة بإيجاز على هذا المفكر العربي من باب الذكرى والتذكير بما نتفق فيه معه وهو التوق إلى وحدة الأمة العربية في يومٍ ما.
د. عبدالعزيز بن بدر القطان