في هذه الأيام المباركة، ليس أفضل ولا أجمل من تدبّر القرآن الكريم، هي فسحة من التأملات، لكن الروحانية، عتاب للذات والتفكر بما بين يدينا، أين أخطأنا وأين أصبنا، وكيف نتقرب من الله تبارك وتعالى؟ ونحن نعرف كل خبايا الدين الإسلامي من حيث الشكل، لكن من حيث المضمون، وحده المؤمن من يستطيع الدخول إلى عمق الآيات وتدبرها، فيجب أن تظل عقولنا وقلوبنا موصولة بكتاب الله، ناهلة من موارده العذبة، بواسطة التدبر في آياته ومعانيه.
جاء في تفسير ابن كثير، عن الإمام الحسن البصري: (قال الحسن البصري: “والله! ما تدبُّره بحفظ حروفه وإضاعة حدوده حتى إن أحدهم ليقول: قرأت القرآن كله، ما يُرى له القرآنُ في خُلُق ولا عمل).
ابن كثير: (عماد الدين أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير بن ضَوْ بن درع القرشي الحَصْلي، البُصروي، الشافعي، ثم الدمشقي، مُحدّث ومفسر وفقيه، 700هـ – 774 هـ)، الحسن البصري: (الحسن بن يسار البصري إمام وقاضي ومحدّث من علماء التابعين ومن أكثر الشخصيات البارزة في عصر صدر الإسلام، 642 هـ – 728 هـ).
تناولنا في الجزء السابق، موضوع التلاوة والتجويد، لأنه من واجبنا تجاه القرآن تلاوته باستمرار بحيث يكون لكل مسلم ورد يومي يقرأ فيه القرآن، والتلاوة هي البداية الأساسية لكل مابعدها، فنحن مأمورون بالتلاوة ونهج نبينا المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم رغبنا فيها، قال تبارك وتعالى: (إن الذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية يرجون تجارة لن تبور)، اليوم سنكمل هذه السلسلة ونقف عند أسباب تعين على تدبر آيات الذكر الحكيم والتفكر في معانيه، حيث أن هناك جملة من الأسباب والسبل التي تعين القارئ لكتاب الله تعالى على تدبر آياته واستخراج كنوزه ودرره، فقد بينّا سالفاً أن تدبر القرآن الكريم غاية عظيمة وهدف أساسي من تنزيله كما صرَّح القرآن بذلك في قوله تعالى: (كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب)، ولذلك يقول ابن القيم: (ولهذا أنزل الله القرآن ليتدبر ويتفكر فيه، ويُعمل به، لا لمجرد التلاوة مع الإعراض عنه)، وقال أيضاً: (تحديق ناظر القلب إلى معانيه، وجمع الفكر على تدبره وتعقله، هو المقصود من إنزاله، لا مجرد التلاوة بلا فهم ولا تدبر).
ابن القيم: (أبو عبدالله شمس الدين محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد بن حريز الزرعي الدمشق، 691 هـ – 751 هـ).
إن فضل تلاوة القرآن كبير جداً، ولو علم المسلمون هذا الفضل العظيم، لتنافسوا في تلاوة القرآن آناء الليل وأطراف النهار، كما أن أيضاً الاستماع إلى المقرئين أصحاب الحناجر الشجية، فإن الصوت الحسن يحدث أثراً في النفس ويزيد الخشوع والتدبر، وقد أمر الله عز وجل بحسن التلاوة والترتيل فقال تعالى: (أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلا)، وفي هذا الإطار قال الإمام النووي: (والترتيل مستحب للتدبر وغيره)، وفي هذا السياق، قال العلماء ومنهم ابن كثير: “المطلوب شرعاً إنما هو التحسين بالصوت الباعث على تدبر القرآن وتفهمه، والخشوع والخضوع والانقياد والطاعة”، ويقول القرطبي: “الترتيل أفضل من الهذ، إذ لا يصح التدبر مع الهذ”، وأما السيوطي فقال: “تُسنُّ القراءة بالتدبر والتفهم فهو المقصود الأعظم، والمطلوب الأهم”، بالتالي، إن سلامة التلاوة وإتقان التجويد وحسن الصوت يزيد الفهم ويكمل الإدراك ويعين على التدبر والخشوع والانقياد، وإذا اختل النطق بالكلمة أو بإعرابها فإن المعنى يتغير أو يكون ناقصاً أو غير بيّن، وكل ذلك لو حدث يبعد القلب عن التدبر وتفهم الآيات.
الإمام النووي: (أبو زكريا، محيي الدين يحيى بن شرف النووي، شيخ الإسلام العالم المُحدث والحافظ والفقيه واللغوي، أحد أبرز علماء الإسلام، 631 هـ – 676 هـ).
الإمام القرطبي: (محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح، الأنصاري الخزرجي الأندلسي القرطبي، وفاة 671 هـ).
الإمام السيوطي: (جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر بن محمد ابن سابق الدين الخضيري السيوطي المشهور باسم جلال الدين السيوطي، إمام حافظ، ومفسر، ومؤرخ، وأديب، وفقيه، 849 هـ – 911 هـ).
من هنا، إن تحسين الصوت بالقرآن يكون أوقع في النفوس وأدعى إلى الاستماع والإصغاء إليه بل له أثر عظيم في رقة القلوب، ومن المتفق عليه بين أهل العلم أن تحسين الصوت بقراءة القرآن والترجيع والتطريب بقراءته والتغني بالقراءة كما كان يفعل أبو موسى ألأشعري، أدعى إلى الاستماع والإصغاء والتدبر فالنفس تنشرح بالصوت الحسن وتقبل عليه لكن هذا مشروط بالالتزام بسلامة التلاوة وإتقان التجويد فإن سلامة النطق تزيد الفهم وتعين على التدبر، أما إذا زاد الأمر في هذه المسألة بحيث لا يفهم من القارئ معنى القرآن واختل النطق بالكلمة أو بإعرابها وترتب عليه تغيير المعنى والبعد عن التدبر فذلك حرام باتفاق كما يفعله بعض القراء الذين ضل سعيهم وخاب عملهم فيستحلون بذلك تغيير كتاب الله، إلى جانب تفريغ النفس من الشواغل المانعة من التلاوة والتدبر، وذلك باختيار الوقت المناسب الفارغ من الأعمال والصوارف كالوقت بعد صلاة الفجر أو صلاة الليل والقراءة في جوف الليل مع اختيار المكان المناسب البعيد عن الضوضاء وأحاديث الناس كالقراءة في المسجد أو في غرفة هادئة في المنزل، وقد حثنا القرآن الكريم على قراءة القرآن في جوف الليل قال سبحانه وتعالى: (إن ناشئة الليل هي أشد وطئا وأقوم قيلا).
أبو موسى الأشعري: (أبو موسى عبد الله بن قيس الأشعري صحابي، وَلَّاهُ النبي محمد على زبيد وعدن، وولاه عمر بن الخطاب على البصرة، وولاه عثمان بن عفان على الكوفة).
ومما يعين على التدبر أيضاً الاستعاذة والإنصات عند سماع القرآن، حيث أنه من السبل والأسباب التي تعين المسلم على قراءة القرآن بخشوع وتدبر أن يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم عند بداية القراءة حتى يفرغ قلبه من الوساوس ومن همزات الشيطان الرجيم الذي يحرص على عدم وصول نور القرآن الكريم وهديه إلى القلب، قال تعالى: (فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان)، وذلك لجملة من الفوائد، أن الملائكة تدنو من قارئ القرآن وتستمع له وتثبت القلب بالسكينة، والاستعاذة تطرد الشياطين، أن الاستعاذة قبل القراءة عنوان وإعلام بأن المأتي به بعدها القرآن، ولهذا لم تشرع الاستعاذة بين يدي كلام غيره بل الاستعاذة مقدمة وتنبيه للسامع أن الذي يأتي بعدها هو التلاوة فإذا سمع السامع السامع الاستعاذة استعد لاستماع كلام الله تعالى، كذلك مما يعين المسلم على تدبر آيات الذكر الحكيم الإنصات عند سماع القرآن والخشوع واستحضار القلب والتفكر والتدبر فيما يُسمع من الآيات، قال الشوكاني: “أمرهم الله سبحانه بالاستماع للقرآن والإنصات له عند قراءته لينتفعوا به، ويتدبروا ما فيه من الحكم والمصالح”.
الإمام الشوكاني: (محمد بن علي بن محمد الشوكاني، الملقب بـبدر الدين الشوكاني، أحد أبرز علماء الإسلام وفقهائه، ومن كبار علماء اليمن، 1173 هـ – 1250 هـ).
كذلك مما يعين على هذا التدبر حضور مجالس التفسير والمقصود الحرص على تعلم كل ما يتصل بالقرآن وذلك بحضور دروس التفسير وحلقات تلاوة ومدارسة القرآن مع أهل العلم والفضل لما فيها من التذكير والتعليم والإعانة على التدبر والخشوع ومن هنا عكف الصحابة على مدارسة القرآن وتفسيره والعمل به وكانوا لا يتجاوزون عشر آيات حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل وكان الرسول صلى الله عليه وآله سلم يحثهم على تلاوة القرآن ومدارسته والجلوس للاستماع إليه وتدبره وفهمه.
بالنتيجة، هذه فرصة للجميع، ونعمة أن جاءنا شهر الخير والبركة ونحن قادرون على تدبر القرآن وتفكره والعودة المؤمنة الخالصة لله تبارك وتعالى، لا أحد يعول على شيء، في زمن قصير تبدلت أحوال أمم ودول، من كان ثرياً، خسر ماله، ومن كان ينعم بالأمان تراه اليوم مشرداً، فلا منقذ لنا إلا العودة إلى القرآن الكريم، لأنه خلاصنا الوحيد، فكلما ازداد البعد عن الإيمان الحقيقي كلما ازدادت نكبات البشرية، ونأمل أن يكون هذا الشهر، شهر خير وبركة على أمة الإسلام جميعاً وأن نحقق هذه الغاية قبل فوات الأوان.
عبدالعزيز بن بدر القطان /كاتب ومفكر – الكويت.