إن المرتد ليس فقط من يرتد عن الدين ويتوجب عقابه، هناك اليوم مع ظاهرة ما تسمّى الحداثة التي اقتحمت العقول وخرّبت تلافيف هذا العقل البشري، لا ليخرج ويعتنق ظاهرة معينة، بقدر ما يخرج ضائعاً تائهاً لا يعرف ماذا يريد ولا كيف يهتدي، الردة الحديثة أشد إيلاماً من شكلها القديم، قديماً ربما كان هناك بعض الجهل، لكن مع تطور الحياة أصبحت الردة خطيرة على المجتمعات تحت عناوين خطيرة، ظاهرها حق، لكن المراد منها حتماً باطل.
شرحنا في الجزء السابق، الردة شرعاً وفي القوانين الوضعية، وفصّلنا العقوبة الأصلية للردة، اليوم نستكمل الحديث لنوضح تفاصيل معنى العقوبة البدلية للردة.
العقوبة البدلية، تقع في حالتين، الأولى: إذا سقطت العقوبة الأصلية بالتوبة، واستبدل بها القاضي عقوبة تعزيرية مناسبة لحال الجاني، كفرض غرامة أو توبيخ وما شابه ذلك، ويصح فيها الحبس بمدة محددة أو دون تحديد حتى يصطلح حال المرتد، إلا أن الفقهاء يميلون مع تشديد العقوبة لأولئك الذين كرروا ردتهم، والبعض الآخر يميل إلى إعفائهم من العقاب في الخطأ الأول باستثاء محظورات محددة تتعلق بالرسول الكريم صلى الله عليه وآله وسلم، أما الحالة الثانية، إذا سقطت العقوبة الأصلية لشبهة كما أسقطها الإمام أبو حنيفة عن المرأة والصبي، وكما أسقطها الإمام مالك عن بعض الصبية، ففي هذه الحالة تحبس المرأة والصبي إلى أمد غير محدد ويجبرا على الدخول في الإسلام، ويجوز أن يحب الحبس عقوبة أخرى ويستمر الجبس حتى يسلم المرتد.
بالتالي، تعتبر جريمة الردة والعقوبة عليها محل جدل فقهي قديماً وحديثاً بين من يرى أنها جريمة حدية وبين من يرى أنها تعزيرية وقد امتد هذا الجدل واشتد في عصرنا الحاضر بين الفقهاء والقانونيين، وبما أن الردة تعتبر من الجنايات فإن محلها القانون الجنائي وقد جاءت على سبيل المثال في القانون الجنائي السوداني في المادة /126/ (يعد مرتكباً جريمة الردة كل مسلم يروج للخروج من ملة الإسلام، أو يجاهربالخروج عنه بقول صريح أوفعل قاطع الدلالة)، ومن خلال هذا النص، يعتبر المشرع الردة بأنها خروج عن الإسلام، ما يعني أن المسلم لا يعتبر خارجاً عن الإسلام ولا يحكم عليه بالردّة إلا إذا توافر شرط وهو تعمّد الجاني إتيان الفعل أو القول الكفري مع انشراح الصدر للكفر واطمئنان القلب له، قال تعالى: (ولكن من شرح بالكفر صدراً)، ومن هذا المنطلق يمكننا القول إنه من نطق قول الكفر وفعل عملاً فيه كفر من دون أن يعي ذلك أو من دون أن يقصد الكفر فلا يعتبر كافراً، وذلك لأن الفعل والقول يحتاجان إلى النية التي يطمئن لها القلب، فإن الأعمال والأفعال تحكم بالنية أي القصد إلى هذا الفعل، والصحيح أن العمل بلا نية يكون باطلاً ولا يعتد به، وفقاً للتشريع الجنائي الإسلامي، وقال الإمام مالك في هذا السياق: (من صدر عنه ما يحتمل الكفر في تسعة وتسعين وجهاً، ويحتمل الإيمان من وجه، حمل أمره على الإيمان).
وذهب فريق آخر إلى أنه يكفي أن يتعمد الشخص إتيان الفعل، إن المنطق والعقل يقولان إن الشخص الذي يتعمد عمل وقول شيء ما لا يرتضيه الإسلام يكون ذلك نابعاً من القلب والعقل أي بالاقتناع والقرار الصادر في وضوح النهار لا بد وأن تسنده النية، لأن كل عمل يصل لا بد أن يكون مصطحباً معه النية إما أن يكون بهذا الفعل قاصداً الاستخفاف بالإسلام أو التقليل من شأنه أو التحقير، هذا ما ذهب إليه مالك وأبو حنيفة والشافعي وانضم إليهم في التأييد أحمد.
من هنا، إن النظام الإسلامي نظام كامل مترابط محتفظ بقيمه وأحكامه منذ الأزل ينص على الاتحاد والتكاتف في ظل دستوره وتشريعه، فالمتمرد على هذه الشريعة الغرّاء لا بد أن يستأصل منه حتى يتم التوازن فيه والتكاتف ومنه جعلت الشريعة الإسلامية عقوبة القتل للمرتدّ عن الإسلام، وكما أشرنا في مواضع كثيرة، أن القرآن هو الدستور الأول المعتمد لدى كل العالم الإسلامي، مع وجود بفعل التطور لبعض الاستثناءات التي تتعلق بتغير الظروف والحالة والعصر، وكما أشرنا أيضاً، جريمة الردّة لها عقوبات مختلفة تختلف تبعاً لاختلاف الظروف المحيطة بالجريمة، منها ما هو عقوبة أصلية التي شرحناها سابقاً هي والعقوبة البدلية ويوجد أيضاً العقوبة التبعية.
وفي تفصيل العقوبة التبعية، تنقسم إلى قسمين، الأول، مصادرة مال المرتدّ: عقوبة الردة التبعية هي مصادرة مال المرتد، وجد خلاف بين الفقهاء في مدى المصادرة ذهب الجمهور إلا أبا حنيفة وهو الرأي الراجح في أن المصادرة تشمل كل مال المرتد من دون استثناء أي شيء، ذهب أبو حنيفة مذهب أحمد (على أن مال المرتد الذي اكتسب بعد الردة هو الذي يصادر، أما ماله الذي اكتسبه قبل الردة فهو من حق ورثته المسلمين)، أما بالنسبة إلى الإماء: (أنه إذا كانت عند المرتد إماء جعلن عند امرأة ثقة لأنهن محرمات عليه فلا يمكن منهن)، وفقاً للتشريع الجنائي الإسلامي.
الثاني، نقص أهلية المرتدّ للتصرف: بعد الردة يفقد المرتد جميع الحقوق التي يتمتع بها المسلمون، تصرفات المرتد ومعاملاته سواء أكانت في مجال عمله أو في داخل البيت تصبح موقوفة من حيث البيع والهبة والعتق والتدبير والوصية والزواج… إلخ، كلها غير صحيحة وإن مات أو قتل فتصرفه يكون باطلا لأن ملكيته تزول بردته.
ومن هذا المنطلق لا يصح زواجه لأنه لا يقر على النكاح فيكون عدم إقراره كنكاح الكافر للمسلمة، وهذا لا يجوز، وكذلك لو كان تزوج وارتد عن الإسلام وجب الفصل أو التفريق بينهما، ومنه فلو زوّج أمته من شخص فالنكاح يكون موقوفًا لأن الولاية غير صحيحة بدليل أن المرأة لا يجوز لها أن تزوج أمتها والمرأة لا تزوج المرأة كذلك الفاسق والمرتد لا ولاية لهما.
من هنا، الإسلام هو الدين الذي إذا غاب عن مسرح الحياة لا يبقى فيها شيء ثابت في محله، تختل موازين ومقاييس الكون، يصير الحرام حلالاً والحلال حراماً لهذا جاء الإسلام محافظاً على حقوق الإنسان المختلفة، وكل ما جاء به الإسلام لا يختلف البتة مع العقل والمنطق، وجاء أيضاً مسايراً لكل زمان ومكان، ولكن الإنسان إذا تمادى جاحداً وناكراً للإسلام محاولاً الطعن فيه بالارتداد عنه إلى دين آخر أي يكفر بالإسلام، ما هذه إلا جريمة كبرى وباطل يصل به إلى الانحطاط والهبوط. ومثل هذا الإنسان ينبغي عدم المحافظة على حياته لأن حياته هذه ليست لها غاية كريمة يُرتجى من ورائها الخير والصلاح، فالشريعة الإسلامية أنصفت الإنسان، والقانون هو امتداد لأحكامها، الإنسان هو الحلقة الجامعة بينهما.
عبدالعزيز بن بدر القطان / كاتب ومفكر – الكويت.