اليمن السعيد أقدم كيان سياسي في شبه الجزيرة العربية، فهو بلد الحضارات العريقة والتاريخ التليد؛ فمُعظم قبائل دول الخليج العربية تنحدر أصولها من اليمن، الذي عانى عبر تاريخه الطويل من الحروب والفتن التي استنزفت شبابه وثرواته القومية، فلم يشهد هذا البلد العظيم أي استقرار اجتماعي أو ازدهار اقتصادي طوال العقود الماضية؛ بل ألقت الحروب الأهلية والانقلابات العسكرية بظلالها على كامل ترابه عبر العقود في الجنوب والشمال على حدٍ سواء.
فكأن قدر هذا الشعب الأصيل أن يعيش مآسٍ ونزاعات بين أطيافه المختلفة بلا نهاية، وذلك بسبب حفنة من أمراء الحروب الذين استباحوا مقدرات وخيرات هذا الشعب بلا رحمة. الحقيقة الغائبة عن البعض؛ أنه لا يمكن بأيِّ حال من الأحوال، أن تنعم الدول المجاورة لليمن بالأمن والاستقرار بوجود يمن ممزق، يسوده الدمار والعنف والأمية التي وصلت إلى 65% بين أبناء هذا البلد العربي الشقيق. فاليمن هو الحديقة الخلفية لدول الخليج العربية، فأمن شبه الجزيرة العربية جزء لا يتجزأ من التنمية وتطور شعوب المنطقة، فانضمامه إلى مجلس التعاون الخليجي أصبح من الضروريات في قادم الأيام للحفاظ على الأمن العربي والخليجي معا.
المرحلة المقبلة يجب أن تكون التنمية الشاملة لليمن هي العنوان الأبرز والصفحة الجديدة التي تكتب في تاريخ اليمن المستقبل، وذلك من خلال بناء مشاريع تنموية عملاقة كالمدارس والجامعات والطرق والمستشفيات والمواني والمطارات ومحطات توليد الكهرباء، في ربوع اليمن من أجل تنمية الإنسان اليمني وإيجاد فرص عمل للعاطلين عن العمل وإعادة البسمة للمحرومين والناجين من جحيم المعارك. فالشعب اليمني أولى من غيره بخيرات المنطقة؛ ومساعدته على تنمية واستخراج موارد بلاده الطبيعية بدلا من ذهابها للأجانب وبعض القيادات المحلية التي اعتادت على نهب المساعدات التي تأتي من الخارج، ويحرم منها فقراء اليمن.
من هذا المنطلق؛ فإن أنظار العالم- خاصة المهتمين بأزمة اليمن- تتجه هذه الأيام إلى الرياض عاصمة المملكة العربية السعودية ومقر الأمانة العامة لمجلس التعاون الخليجي، التي قدمت مبادرة سلام باسم دول المجلس؛ لجمع شمل أطراف الصراع في هذا البلد العربي الجار، بعد حرب استمرت أكثر من 7 سنوات، ذهب ضحيتها أعداد كبيرة من أرواح اليمنيين، بينما غابت عن الساحة اليمنية أي خطة واضحة المعالم لحقن دماء الأبرياء طوال سنوات الحرب؛ وعلى وجه الخصوص من أطراف الصراع الذين كان شغلهم الشاغل هو استثمار الحرب الأهلية للحصول على الأموال التي تأتي من الخارج؛ ومحاولة الوصول إلى السلطة بأي ثمن بعيدًا عن صناديق الاقتراع حسب الدستور اليمني، وتحقيق هذا الأمر أصبح غير ممكن في ظل المعطيات الجديدة واستحقاقات المرحلة المقبلة.
لا شك أنَّ تنازل الرئيس عبد ربه منصور هادي عن منصبه كرئيس للجمهورية اليمنية، لكونه الرئيس الشرعي المعترف به دوليًا؛ ونقل جميع صلاحياته للمجلس الرئاسي الذي شكله بنفسه قبل أيام؛ والذي يضم في عضويته معظم محافظات اليمن، قرار حكيم وتضحية جديرة بالتقدير والاحترام، فهذا بداية الطريق وخطوة أولى للمصالحة الوطنية اليمنية، على أمل أن تتبعها خطوات أخرى نحو المصالحة الشاملة، وذلك للتفاوض مع جماعة “أنصار الله” المعروفين باسم الحوثيين، فهم جزء من النسيج الوطني، وقوة عسكرية أثبتت مع الأيام سيطرتها على أراضٍ واسعة من اليمن، خاصة العاصمة صنعاء وبعض المحافظات في شمال اليمن، فلا يمكن أن يتحقق السلام إلا بتوافق أبناء الشعب اليمني بجميع مكوناته وقبائله وأقلامه المختلفة. ومن المفترض أن ينتهي المجلس الرئاسي الجديد عند ما يتحقق السلام الشامل في ربوع اليمن، وخاصة عند إجراء الانتخابات العامة وتنصيب رئيس الجمهورية الجديد وفقا للدستور.
لقد أثمرت جهود الأمين العام لمجلس التعاون الخليجي في إقناع ساسة اليمن ووجهائها الذين لبوا نداء السلام في الرياض، وإن كانت الدعوة أتت متأخرة نسبيًا، فالمدافع والرشاشات كانت الصوت المسموع والمسيطر على الساحة، في الوقت الذي خفت وتراجع فيه صوت العقل والحكمة اليمانية المعهودة عبر الأزمان.
وفي الختام، حان الوقت أن يعيش هذا الشعب الجريح والذي أرهقته الحروب المدمرة التي لا تنتهي؛ مثل غيره من شعوب المنطقة في سلام ووئام، فيطوي صفحة الخصام والعنف إلى الأبد، فعلى المتآمرين أن يرفعوا أيديهم، وأن يبعدوا عن تقسيم اليمن وسفك دماء الأبرياء، فأصبح هناك إجماع من حكماء هذا البلد- أكثر من أي وقت مضى- على فتح فصل جديد للتصالح والتوافق بين الجميع، فالصلح خير.
د. محمد بن عوض المشيخي