يهلُّ الشيخ الدكتور صالح بن أحمد الصوافي على الخاطر ومعه زمالة المبنى القديم للإذاعة والبرامج الدينية وعمان التي تنهض لتستأنف المسير.
وأقلَّبُ مع الرجل صفحات العمر الموشاة بزمالة بعثة الحج العمانية فتتكرر مكة والمدينة ومنى وعرفات وقباء وبدر وأحد.
كان الشيخ أول صوت لواعظ عماني يدخل البيوت عبر الراديو بحكم ترؤسه لقسم البرامج الدينية في إذاعة سلطنة عمان.
وكان بين الرعيل الأول من حملة الدكتوراه في البلاد.
صَحِبْتَهُ إلى الدِّيار المقدسة ضمن بعثة الحج العمانية منتصف سبعينيات القرن الماضي فشعرت أن مكة بلده ، فالبيت يعرفه والحل والحرم.
وخرجتُ معه ذات مرة من مبنى البعثة في “المسفلة” لزيارة الحجاج في بيت الرباط العماني في مبناه القديم القديم القديم في الشبيكة وإذا بالدروب تعرف خطواته ، فمكة تنقسم بين علاية وسفالة كحال ولاياتنا، إلا أنها تسمى هناك “بالمسفلة والمعلاة” ولعل تسميتهم الأصح.
وكان حديث الصوافي عن مكة كحديثه عن سكيك سناو ومزارعها ونخيلها وشجرها.
وكان بيت الرباط يومها أشْبَه ببيوت حاراتنا المهجورة لولا بقايا المشربيات الخشبية ولمسات العمارة المكية القديمة.
وكان المقيمون به كأنهم في بيوت عقر نزوى أو يخرجون من حارة الجمار بسمائل أو يضيئون سكيك حارة الصواوفة بسناو أو حارة السيباني ببركة الموز .
وكانت “السَّتايم تْحَنّ” يوم دخلنا بيت الرباط ، فالناس بين من “يخدم القهوة” برائحة السبلات ومن يطبخ الغداء بشوق عودة زرَّاع الأرض إلى لمَّة البيت وجحلة الماء.
وجمعتنا بالشيخ حكايات وقفشات فندق “الكندرة” بجدة.
والتقينا هناك في جلسة مطولة في فندق الكندرة بالقارئ المصري الأشهر الشيخ محمود خليل الحصري الذي حلَّ ضيفا مثلنا على الإعلام السعودي ، فهو لتسجيل المصحف الشريف بصوته السماوي لإذاعة القرآن الكريم بمكة المكرمة ونحن للمشاركة في نقل مراسم حج الله الأكبر.
كما جمعتنا لأيام جيرة مسجد الرسول بفندق الرحاب بالمدينة المنورة.
وكان طريقنا من جدة إلى مدينة الرسول يمر عبر مدينة بدر ، فلا بد من وقفة عند مقبرة الشهداء قبل أن يقيم المعنيون أسوارا عالية لإخفاء شواهد ضجعاء جنة بدر البررة الأطهار الأنقياء.
يومها اقتربنا من المقبرة والشيخ الدكتور الصوافي يومئ بسبابته إلى هذا الشاهد وذاك فيصطخب التخيُّل بين العُدْوة الدُّنيا والعُدْوة القُصوى والرَّكْب الأسفل.
وما زالت السبابة الصوافية تومئ فيتساقط صناديد قريش كأبي جهل عمرو بن هشام وأميّة بن خلف وعتبة بن ربيعة وسعد بن خيثمة ضمن سبعين قتيلا اتسع لهم قليب بدر ، فيما زُفَّ للسماء أربعة عشر من شهداء المهاجرين والأنصار وأُسْرِجَتْ لهم الجنة أمثال عبيد بن الحارث المطلبي وعمير بن أبي وقاص وذي الشمالين بن عبد بن عمرو الخزاعي ويزيد بن الحارث
وأتذكر ذات انتظار لنا بين المغرب والعشاء في مسجد الرسول يوم هبَّ الشيخ الدكتور صالح بن أحمد الصوفي واقفاً وارتقى كرسيَّاً فانطلق يوعظ الناس ويفقِّههم في الدين.
وكنت أتلفَّت يمنة ويسرة أتحسَّب لمن يأتي ليسكته فلم يتحرك أحد ، فالرجل ابن المدينة المنورة وخريج جامعة مدينة الرسول ، لذلك تركوا صوته ليعانق سنطوانات الروضة الشريفة ومنبر النبي ومحرابه ودكّة أهل الصُّفَّة ، ولعل الصَّوت تسلَّل لغرفة الصديقة عائشة.
ودار الزمن دورته فخرج الشيخ من الإعلام ولكن عشق المايكرفون لم يفتر بل زاد ، وأضواء الكاميرات لم تنطفئ بل اقتربت منه لتطلبَ وُدّه.
وكنتُ أطالع برامجه بين وقت وآخر وأرى الزمن الذي هجم بقوة عليه ، والتعب الذي تسلط على وشائجه مع الكاميرا والمايكرفون لتتقطَّع في النهاية دونما رغبة من الطرفين
وكنتُ قبل ثلاث سنوات في بانكوك لعارضٍ طبي وقد سبقني الشيخ الصوافي إلى هناك فسألتُ عن “مناخه” لعلَّ أيام فندق الكندرة بجدة تعود وفندق الرحاب الذي طمسته توسعة المسجد النبوي يشعشع كالحلم فأستعيد زمن الشيخ الصوافي وزمالة المبنى القديم ، فقيل لي أنه عاد إلى الوطن ففرحت بأمنية أن الإقدام سيكون ركاب العودة لمبنى الإذاعة والتلفزبون وللدروس الدينية ولمشاوير الحياة.
إلا أن الرجل عاد من بانكوك ثقيل الخطوة إلا إلى سجَّادته.
وتسحَّب رويدا رويدا من الحياة لينحصر شوقه لمكة والمدينة في رؤيتهما عبر النقل التلفزيوني.
ولتبقى الصلة ببدر وأحد وغيرها من العرصات المقدسة عبر كتب السِّيرة.
وفي هذه الجمعة من رمضان يسافر الشيخ الدكتور صالح بن أحمد الصوافي لرحلة انتظرها وتزود لها فتزامنت مع استعادة مكة والمدينة ومسقط وكل عواصم الإسلام صلوات الجماعة في المساجد وتَعَطُّر ليالي رمضان بالتراويح.
رحم الله أبا المختار زميلا عرفته ورفيق سفر صحبته وعالما دخل صوته بيوتنا وسياراتنا عبر الراديو قبل غيره بكثير.
لقد رحل “وَمَا زال فِي الدَّرب دربٌ” كما يقول محمود درويش.
“وما زال في الدرب مُتّسعٌ للرَّحيلْ”.
حمود بن سالم السيابي
مسقط في ١٥ أبريل ٢٠٢٢م.ال