أينما توجَّهت في أي ولاية من ولايات عُماننا الغالية، تجد الشواهد التاريخية حاضرة مُجسِّدة عمق الحضارة العمانية التليدة، كلها تقف شامخة جلية للعيان، وما خَفِي أعظم تحت الرمال وبين صخور الجبال من حفريات وآثار ولُقى تُبرهن على قدم الإنسان العماني، منها ما اكتشفناه ومعظمها لم نتوصل إليه حتى الآن!
ومن بين ما تزخر به بلادنا من كنوز تراثية: الحارات القديمة، والتي هي بمثابة كنوز تركها لنا أجدادنا كي نستفيد منها ونفتحها فنستخرج منها ما يؤكد قوة الإنسان الذي استوطن كل شبر من أرض عمان، فعمّر وبنى وشيّد هذه الحارات، التي كانت في وقتها معالم حضارية يشار إليها بالبنان. لكن من المؤسف أن العديد منها تعرض للإهمال لظروف مختلفة، فضلا عن عوامل التعرية الطبيعية التي أخذت منها جزءا كبيرا، فتحول الكثير منها إلى أطلال غير مستغلة.
الحقُّ أنَّ الجهات المعنية -وعلى رأسها وزارة التراث والسياحة- تبذل جهوا لحصر وتوثيق الحارات القديمة، ومشروع بدأ قبل سنوات ونأمل أن يكون قد خرج بالنتائج المأمولة، وعلى رأسها: كيفية الاستفادة من هذه المقدرات الوطنية في تعزيز الجذب السياحي، ورفد هذا القطاع الواعد بمقومات إضافية، بجانب ما تتمتع به السلطنة من إمكانيات وعناصر فريدة تجذب السائح المحلي والأجنبي.
ما يُميز هذه الحارات، ليس فقط أنها تركة أجدادنا العظماء، لكن أيضا روعة البناء الهندسي التي تُبرز فنون العمارة القديمة على مر عصور مختلفة، وكيف أن أسلافنا نجحوا في مواجهة الظروف الصعبة والتحديات العديدة، وبنوا وشيدوا هذا النوع من المعمار، مثل حارة الجمار في ولاية سمائل بمحافظة الداخلية، وغيرها من الحارات المنتشرة في ربوع ولايات السلطنة.
… إنني عندما أدعو للاستفادة من هذه الحارات لتعزيز القطاع السياحي، أحثُّ الشباب أولا من رواد الأعمال على الاستفادة من هذه المقومات التراثية، على غرار ما شاهدناه في مسفاة العبريين وغيرها، من استغلال إيجابي للحارات والبيوت القديمة. فمثل هذه المشاريع تحظى بتجاوب كبير من قبل الجمهور، الساعي لتغيير أنماط السياحة التقليدية التي اعتاد عليها، فقد ملَّ الناس الذهاب إلى المراكز التجارية أو المنتجعات الاصطناعية، وحان الوقت للجوء إلى التراث، لأنه يمنح الزائر الدفء الذي يبحث عنه، فكل لبنة من لبنات الحارات والبيوت القديمة تروي قصة كفاح ومثابرة خاضها أجدادنا، كما أنَّ عبق التاريخ ينتشر في أنحاء هذه الحارات.
ورغم الظروف الصحية التي نمرُّ بها الآن، إلا أنني أجد أنه من المناسب فتح هذه الحارات للزيارة والنهوض بها من خلال مشروعات شراكة بين القطاعين العام والخاص، ومن ثم منح هذه المشاريع للشباب من رواد الأعمال، لكي يديرونها بأنفسهم، فتوفر لهم مصدر دخل مناسب. ولا يفوتنا أن نحث على التقيد بالإجراءات الاحترازية؛ مثل: ارتداء الكمامات، وتحقيق التباعد الجسدي، والسماح فقط لمجموعات صغيرة من الزوار بالدخول… وهكذا.
لا شك أنَّ العناية بالحارات القديمة هو اعتناء بالتاريخ، ومن يعتنِ بتاريخه يجد المستقبل أمامه مشرقا، وهذه دعوة مفتوحة لكل من يرغب في العناية بالتاريخ لأن يمد اليد من أجل إعادة تأهيل هذه الحارات، فقد نجحنا في توثيقها على الورق، وآن الأوان كي نستفيد منها في رفد القطاع السياحي.
علي بن بدر البوسعيدي